الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان محل التعلق فنقول - وبالله التوفيق - لا خلاف في أن الدين يتعلق بكسب العبد ; لأن المولى بالإذن بالتجارة عينه للاستيفاء أو تعين شرعا نظرا للغرماء سواء كان كسب التجارة أو غيره من الهبة والصدقة والوصية وغيرها ، وهذا قول علمائنا الثلاثة - رضي الله عنهم - وقال زفر - رحمه الله - لا يتعلق إلا بكسب التجارة وتكون الهبة وغيرها للمولى .

                                                                                                                                ( وجه ) قول زفر أن التعلق حكم الإذن ، والإذن بالتجارة لا لغيرها ، وهذه ليست من كسب التجارة فلا يتعلق بها الدين .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن شرط ثبوت الملك للمولى في كسب العبد أي كسب كان فراغه عن حاجة العبد للفقه الذي ذكرنا من قبل ولم يوجد الفراغ فلا يثبت الملك له ، وسواء حصل الكسب بعد لحوق الدين أو كان حاصلا قبله إلا الولد والأرش فإن ما ولدت المأذونة من غير مولاها بعد لحوق الدين يتعلق به ، وما ولدته قبل ذلك لا يتعلق الدين به ويكون للمولى ، وكذلك الأرش بأن فقئت عينها فوجب الأرش على الفاقئ .

                                                                                                                                ( ووجه ) الفرق أن التعلق بالولد بحكم السراية من الأم إليه ; لأن الولد يحدث على وصف الأم ومعنى السراية إنما يتحقق في الحادث بعد لحوق الدين لا قبله ; لأنه كان ولا دين على الأم فلما حدث حدث على ملك المولى ، وكذلك الأرش في حكم الولد لأن الولد جزء منفصل من الأصل والأرش بدل جزء منفصل من الأصل وحكم البدل حكم الأصل

                                                                                                                                وأما تعلقه بغيرهما فليس بحكم السراية بل الشغل بحاجة العبد فإذا لم ينزعه المولى من يده حتى لحقه دين محيط فقد صار مشغولا بحاجته فلا يظهر ملك المولى فيه فهو الفرق ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وههنا فرق آخر وهو أن الولد المولود بعد لحوق الدين يدخل في الدين وولد الجناية لا يدخل في الجناية ; لأن دخوله في الدين بحكم السراية ; لأن الدين يتعلق برقبة الأم فسرى ذلك إلى الولد فحدث على وصف الأم ، والجناية لا تحتمل التعلق بالرقبة فلا تحتمل السراية فهو الفرق ، ولو أذن له المولى دفع إليه مالا ليعمل به فباع واشترى ولحقه دين لا يتعلق الدين بالمال المدفوع إليه ; لأن الدين يتعلق بكسب العبد ، وذا ليس كسبه أصلا فلا يتعلق به .

                                                                                                                                وأما رقبة العبد فهل يتعلق الدين بها اختلف فيه قال علماؤنا الثلاثة - رضي الله تعالى عنهم - : يتعلق وقال زفر والشافعي - رحمهما الله تعالى - لا يتعلق .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما أن هذا إن كان دين العبد فالرقبة ملك المولى ، ودين الإنسان لا يقضى من مال مملوك لغيره إلا بإذنه ولم يوجد ، وإن كان دين المولى فلا يتعين له مال دون مال كسائر ديون المولى ، وإنما يقضى من الكسب لوجود التعيين فالإذن من المولى دلالة الإذن بالتجارة ; لأنه قضاء دين التجارة من كسب التجارة فكان مأذونا فيه دلالة ، ومثل هذه الدلالة لم يوجد في الرقبة ; لأن رقبة العبد ليست من كسب التجارة .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن نقول هذا دين العبد لكن ظهر وجوبه عند [ ص: 204 ] المولى ، ودين العبد إذا ظهر وجوبه عند المولى يقضى من رقبته التي هي مال المولى كدين الاستهلاك أو نقول هذا دين المولى فيقضى من المال الذي عينه المولى للقضاء منه كالرهن والمولى بالإذن عين الرقبة لقضاء الدين منها فيتعين بتعيين المولى - والله سبحانه وتعالى أعلم - وإذا كانت الرقبة والكسب كل واحد منهما محلا لتعلق الدين به فإذا اجتمع الكسب والرقبة يبدأ بالاستيفاء من الكسب ; لأن الكسب محل للتعلق قطعا ، ومحلية الرقبة لتعلق محل الاجتهاد فكانت البدلية بالكسب أولى فإذا قضي الدين منه ، فإن فضل من الكسب شيء فهو للمولى ; لأنه كسب فارغ عن حاجة العبد ، وإن فضل الدين يستوفى من الرقبة عندنا ، فإن فضل على الثمن يتبع العبد به بعد العتاق على ما نذكره .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية