الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان ما يبطل به الإذن بعد وجوده فنقول إن الإذن بالتجارة يبطل بضده وهو الحجر فيحتاج إلى بيان ما يصير العبد به محجورا وذلك أنواع بعضها يرجع إلى المولى وبعضها إلى العبد أما الذي يرجع إلى المولى فثلاثة أنواع : صريح ودلالة وضرورة ، والصريح نوعان : خاص وعام أما العام فهو الحجر باللسان على سبيل الإشهار والإشاعة بأن يحجره في أهل سوقه بالنداء بالحجر ، وهذا النوع من الحجر يبطل به الإذن الخاص والعام جميعا ; لأن الإذن بالتجارة غير لازم فكان محتملا للبطلان والشيء يبطل بمثله وبما هو فوقه .

                                                                                                                                وأما الخاص فهو أن يكون بين العبد وبين المولى ولا يكون على سبيل الاستفاضة والاشتهار وهذا النوع لا يبطل به الإذن العام ; لأن الشيء لا يبطل بما هو دونه ، ولأن الحجر إذا لم يشتهر فالناس يعاملونه بناء على الإذن العام ثم يظهر الحجر فيلحقهم ضرر الغرور وهو إتلاف ديونهم في ذمة المفلس .

                                                                                                                                ومعنى التغرير لا يتحقق في الإذن العام ; لأن الناس يمتنعون عن معاملته فلا يلحقهم ضرر الغرور ويبطل به الإذن الخاص ; لأن الحجر صحيح في حقهما حسب صحة الإذن فجاز أن يبطل به ; لأن الشيء يحتمل البطلان بمثله ومن شرط صحة هذين النوعين علم العبد بهما ، فإن لم يعلم لا يصير محجورا ; لأن الحجر منع من تصرف شرعي ، وحكم المنع في الشرائع لا يلزم الممنوع إلا بعد العلم كما في سائر الأحكام الشرعية ، ولو أخبره بالحجر رجلان أو رجل وامرأتان عدلا كان أو غير عدل صار محجورا بالإجماع ، وكذلك إذا أخبره واحد عدل رجلا كان أو امرأة حرا كان أو عبدا أو أخبره واحد غير عدل وصدقه ; لأن خبر الواحد في المعاملات مقبول من غير شرط العدد والعدالة والذكورة والحرية إذا صدقه فيه .

                                                                                                                                وأما إذا كذبه فلا يصير محجورا عند أبي حنيفة - رحمه الله - ، وإن ظهر صدق المخبر ، وعندهما يصير محجورا صدقه أو كذبه إذا ظهر صدق المخبر ، ولو كان المخبر رسولا يصير محجورا بالإجماع صدقه أو كذبه ، ولو اشترى المأذون عبدا فأذن له بالتجارة فحجر المولى على أحدهما ، فإن حجر على الأسفل لم يصح سواء كان على الأعلى دين أو لم يكن ; لأنه مأذون من جهة الأعلى لا من جهة المولى ، وإن حجر على الأعلى ينظر إن لم يكن عليه دين لا يصير الأسفل محجورا عليه ; لأنه إذا لم يكن عليه دين فهما عبدان مملوكان للمولى فيصير كأنه أذن لهما ثم حجر على أحدهما ، ولو كان كذلك ينحجر أحدهما بحجر الآخر كذا هذا ، وإن كان على الأعلى دين يصير محجورا عند أبي حنيفة ، وعندهما لا يصير محجورا بناء على أن المولى لا يملك كسب عبده المأذون المديون عنده ، وعندهما يملك .

                                                                                                                                ( ووجه ) البناء أنه لما لم يملك عبده ، وقد استفاد الإذن من جهة الأعلى لا من جهة المولى صار حجر الأعلى كموته ، ولو مات لصار الثاني محجورا كذا هذا ، ولما ملك عندهما صار الجواب في هذا وفي الأول سواء ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وأما الدلالة فأنواع منها البيع وهو أن يبيعه المولى ولا دين عليه ; لأنه زال ملكه بالبيع وحدث للمشتري فيه ملك جديد فيزول إذن البائع لزوال ملكه ولم يوجد الإذن من المشتري فيصير محجورا ومنها الاستيلاد بأن كان المأذون جارية فاستولدها المولى استحسانا ، والقياس أن لا يبطل به الإذن ; لأنها قادرة على التصرف بعد الاستيلاد .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان أن التجارة لا بد لها من الخروج إلى الأسواق ، وأمهات الأولاد ممنوعات عن الخروج في العادات فكان الاستيلاد حجرا دلالة .

                                                                                                                                وأما التدبير فلا يكون حجرا ; لأنه لا ينفي الإذن إذ الإذن إطلاق والتدبير لا ينافيه ، ومنها لحوقه بدار الحرب مرتدا ; لأن الردة مع اللحوق توجب زوال الملك وذا يمنع بقاء الإذن فكان حجرا دلالة ، فإن لم يلحق بدار الحرب فعلى قياس قول [ ص: 207 ] أبي حنيفة رضي الله عنه ينبغي أن يقف تصرف المأذون بعد الردة وعلى قياس قولهما ينفذ ، والله تعالى أعلم بالصواب وأما الضرورة فأنواع أيضا : منها موته ; لأن الموت مبطل للملك وبطلان الملك يوجب بطلان الإذن على ما بينا ومنها جنونه جنونا مطبقا ; لأن أهلية الإذن شرط بقاء الإذن ; لأن الإذن بالتجارة غير لازم فكان لبقائه حكم الابتداء ثم ابتداء الإذن لا يصح من غير الأهل فلا يبقى أيضا والجنون المطبق مبطل للأهلية فصار محجورا .

                                                                                                                                فإن أفاق يعد مأذونا ; لأن بطلان الإذن لبطلان الأهلية مع احتمال العود فإذا أفاق عادت الأهلية فعاد مأذونا ، وصار كالموكل إذا أفاق بعد جنونه أنه تعود الوكالة كذا هذا .

                                                                                                                                وأما الإغماء فلا يوجب الحجر ; لأنه لا يبطل الأهلية لكونه على شرف الزوال ساعة فساعة عادة ، ولهذا لا يمنع وجوب سائر العبادات .

                                                                                                                                وأما الذي يرجع إلى العبد فأنواع أيضا : منها إباقه ; لأنه بالإباق تنقطع منافع تصرفه عن المولى فلا يرضى به المولى وهذا ينافي الإذن ; لأن تصرف المأذون برضا المولى ، ومنها جنونه جنونا مطبقا ; لأنه مبطل أهلية التجارة على وجه لا يحتمل العود إلا على سبيل الندرة لزوال ما هو مبني عليه وهو العقل فلم يكن في بقاء الإذن فائدة فيبطل ، ولو أفاق بعد ذلك لا يعود مأذونا بخلاف الموكل ، والله سبحانه وتعالى أعلم وأما الجنون الذي هو غير مطبق فلا يوجب الحجر ; لأن غير المطبق منه ليس بمبطل للأهلية لكونه على شرف الزوال فكان في حكم الإغماء ومنها ردته عند أبي حنيفة ، وعندهما لا توجب الحجر بناء على وقوف تصرفاته عنده ونفوذها عندهما ، ومنها لحوقه بدار الحرب مرتدا ; لأن اللحوق بدار الحرب مرتدا بمنزلة الموت فكان مبطلا للأهلية فيصير محجورا لكن عند أبي حنيفة - رحمه الله - من وقت الردة ، وعندهما من وقت اللحوق والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية