الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في أكل لحوم الخيل

                                                                                                          1793 حدثنا قتيبة ونصر بن علي قالا حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر قال أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر قال وفي الباب عن أسماء بنت أبي بكر قال أبو عيسى وهذا حديث حسن صحيح وهكذا روى غير واحد عن عمرو بن دينار عن جابر ورواه حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر ورواية ابن عيينة أصح قال وسمعت محمدا يقول سفيان بن عيينة أحفظ من حماد بن زيد

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( قالا حدثنا سفيان ) هو ابن عيينة

                                                                                                          [ ص: 412 ] قوله : ( أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل ) وفي رواية البخاري : رخص في لحوم الخيل ، وفي رواية مسلم : أذن بدل رخص ، وفي حديث ابن عباس عند الدارقطني : أمر . قال الطحاوي في شرح الآثار : وذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل ، وخالفه صاحباه وغيرهما ، واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها ، ولو كان ذلك مأخوذا من طريق النظر لما كان بين الخيل والحمر الأهلية فرق ، ولكن الآثار إذا صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواترت أولى أن يقال بها من النظر ، ولا سيما إذا قد أخبر جابر أنه صلى الله عليه وسلم أباح لهم لحوم الخيل في الوقت الذي منعهم فيه من لحوم الحمر الأهلية ، فدل ذلك على اختلاف حكمها انتهى كلام الطحاوي .

                                                                                                          قلت : الأمر كما قال الطحاوي ولا شك أن القول بحل أكل لحوم الخيل من دون كراهة هو الحق لأحاديث الباب التي هي صحيحة صريحة في الحل ، وهو قول جمهور أهل العلم ، وقد نقل الحل بعض التابعين عن الصحابة من غير استثناء أحد . فأخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عطاء قال : لم يزل سلفك يأكلونه ، قال ابن جريج : قلت له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : نعم ، ذكره الحافظ في الفتح . قال النووي : اختلف العلماء في إباحة لحوم الخيل ، فمذهب الشافعي والجمهور من السلف والخلف أنه مباح لا كراهة فيه ، وبه قال عبد الله بن الزبير وفضالة بن عبيد وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر ، وسويد بن غفلة وعلقمة والأسود وعطاء وشريح وسعيد بن جبير والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي وحماد بن سلمان وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وداود وجماهير المحدثين وغيرهم ، وكرهها طائفة منهم ابن عباس والحكم ومالك وأبو حنيفة ، قال أبو حنيفة : يأثم بأكله ولا يسمى حراما انتهى كلام النووي .

                                                                                                          وقال الحافظ : وصح الكراهة عن الحكم بن عيينة ومالك وبعض الحنفية وعن بعض المالكية والحنفية التحريم . وقال الفاكهي : المشهور عند المالكية الكراهة والصحيح عند المحققين منهم التحريم انتهى . وقال العيني في شرح البخاري في باب لحوم الخيل : قيل الكراهة عند أبي حنيفة كراهة تحريم ، وقيل كراهة تنزيه ، وقال فخر الإسلام وأبو معين : هذا هو الصحيح ، قال وأخذ أبو حنيفة في ذلك بقوله تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة خرج مخرج الامتنان ، والأكل من أعلى منافعها ، والحكيم لا يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها . قال : واحتج أيضا بحديث أخرجه أبو داود عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير . وأخرجه النسائي وابن ماجه والطحاوي ، ولما رواه أبو داود سكت عنه ، فسكوته دلالة رضاه به ، ويعارض حديث جابر والترجيح للمحرم انتهى . وقال العيني في غزوة خيبر مثل هذا وقال : سند حديث خالد جيد ؛ ولهذا لما أخرجه أبو داود سكت عنه فهو حسن عنده انتهى .

                                                                                                          [ ص: 413 ] قلت : قول العيني : سند حديث خالد جيد ليس بجيد وليس مما يلتفت إليه ، فإن مدار هذا الحديث على صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب ، وصالح هذا قال البخاري : فيه نظر كما في تهذيب التهذيب ، وقال ابن الهمام في التحرير : إذا قال البخاري للرجل فيه نظر فحديثه لا يحتج به ولا يستشهد به ، ولا يصح للاعتبار انتهى . فحديث خالد هذا لا يصلح للاحتجاج ولا للاستشهاد ولا للاعتبار . وقد ضعفه أحمد والبخاري والدارقطني والخطابي وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون فلا يصلح لمعارضة حديث جابر ، وغيره من أحاديث الباب . فإن قلت قال العيني : وصالح هذا وثقه ابن حبان وحديثه حسن عند أبي داود . فإذا كان كذلك صحت المعارضة فإذا تعارضا يرجح المحرم ، قلت : توثيق ابن حبان صالحا هذا وسكوت أبي داود على حديثه لا يزن بشيء في جنب قول البخاري : فيه نظر ، وتضعيف الأئمة المذكورين ، ولذلك لم يسكت عنه المنذري في تلخيص السنن بل قال : قال أبو داود : هذا منسوخ وقال الإمام أحمد : هذا حديث منكر . وقال البخاري : صالح بن يحيى بن المقدام بن معديكرب الكندي الشامي عن أبيه فيه نظر .

                                                                                                          وذكر الخطابي أن حديث جابر إسناده جيد . وأما حديث خالد بن الوليد ففي إسناده نظر ، وصالح بن يحيى بن المقدام عن أبيه عن جده لا يعرف سماع بعضهم عن بعضهم . وقال موسى بن هارون الحافظ : لا يعرف صالح بن يحيى ولا أبوه إلا بجده . وقال الدارقطني : هذا حديث ضعيف . وقال الدارقطني أيضا : هذا إسناد مضطرب .

                                                                                                          وقال الواقدي : لا يصح هذا لأن خالدا أسلم بعد فتح مكة . وقال البخاري : خالد لم يشهد خيبر . وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل لم يشهد خيبر ، إنما أسلم بعد الفتح . وقال أبو عمر النمري : ولا يصح لخالد بن الوليد مشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفتح . وقال البيهقي : إسناده مضطرب ومع اضطرابه مخالف لحديث الثقات انتهى . ( ونهانا عن لحوم الحمر ) أي الأهلية ، وسيأتي حكم الحمر الأهلية في الباب الذي بعده .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن أسماء بنت أبي بكر ) أخرجه البخاري : قالت ذبحنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا ونحن بالمدينة فأكلناه . وأخرجه مسلم أيضا . وفي الباب أيضا عن ابن عباس ، أخرجه الدارقطني بسند قوي ولفظه : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل . قاله الحافظ في الفتح .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .

                                                                                                          [ ص: 414 ] قوله : ( وروى حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر ) بإدخال محمد بن علي بين عمرو وجابر . ومحمد بن علي هذا هو محمد بن علي بن الحسين بن علي وهو الباقر أبو جعفر . وهذه الرواية أخرجها البخاري ومسلم وأخرجها النسائي وقال : لا أعلم أحدا وافق حمادا على ذلك . ( ورواية ابن عيينة أصح وسمعت محمدا يقول سفيان بن عيينة أحفظ من حماد بن زيد ) لكن اقتصر البخاري ومسلم على تخريج طريق حماد بن زيد ، وقد وافقه ابن جريج عن عمر وعلى إدخال الواسطة بين عمرو وجابر لكنه لم يسمه . أخرجه أبو داود من طريق ابن جريج . وله طريق أخرى عن جابر أخرجها مسلم من طريق ابن جريج وأبو داود من طريق حماد والنسائي من طريق حسين بن واقد ، كلهم عن أبي الزبير عنه وأخرجه النسائي صحيحا عن عطاء عن جابر أيضا ، وأغرب البيهقي فجزم بأن عمرو بن دينار لم يسمعه من جابر ، واستغرب بعض الفقهاء دعوى الترمذي أن رواية ابن عيينة أصح مع إشارة البيهقي إلى أنها منقطعة وهو ذهول ، فإن كلام الترمذي محمول على أنه صح عنده اتصاله ، ولا يلزم من دعوى البيهقي انقطاعه كون الترمذي يقول بذلك ، والحق أنه إن وجدت رواية فيها تصريح عمر بالسماع من جابر فتكون رواية حماد من المزيد في متصل الأسانيد . وإلا فرواية حماد بن زيد هي المتصلة ، وعلى تقدير وجود التعارض من كل جهة فللحديث طرق أخرى عن جابر غير هذه ، فهو صحيح على كل حال قاله الحافظ .




                                                                                                          الخدمات العلمية