الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              [ ص: 654 ] سورة الإخلاص قوله تعالى: قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد

                                                                                                                                                                                              قال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: "الكلام على سورة الإخلاص " . وفي موضع نزولها قولان:

                                                                                                                                                                                              أحدهما: أنها مكية .

                                                                                                                                                                                              والثاني: مدنية، وذلك في فصول في فضائلها وسبب نزولها وتفسيرها .

                                                                                                                                                                                              أما فضائلها فكثيرة جدا .

                                                                                                                                                                                              منها: أنها نسبة الله عز وجل .

                                                                                                                                                                                              خرج الطبراني من طريق عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي عن الوازع ابن نافع عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكل شيء نسبة، ونسبة الله: قل هو الله أحد الله الصمد ليس بأجوف " .

                                                                                                                                                                                              الوازع ضعيف جدا، وعثمان يروي المناكير، وسيأتي في سبب نزولها ما يشهد له .

                                                                                                                                                                                              ومنها: أنها صفة الرحمن، وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث عائشة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ قل هو الله أحد فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "سلوه: لأي شيء يصنع ذلك؟ "، فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن [ ص: 655 ] أقرأ بها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أخبروه أن الله يحبه " .

                                                                                                                                                                                              ومنها: أن حبها يوجب محبة الله، لهذا الحديث المذكور آنفا، ومنه قول ابن مسعود : "من كان يحب القرآن فهو يحب الله " .

                                                                                                                                                                                              ومنها: أن حبها يوجب دخول الجنة . ذكر البخاري في "صحيحه " تعليقا وقال: عبيد الله عن ثابت عن أنس قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به، افتتح بـ قل هو الله أحد حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، وذكر الحديث، وفيه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا فلان، ما حملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ " فقال: إني أحبها، فقال: "حبك إياها أدخلك الجنة" . وخرجه الترمذي في "جامعه " عن البخاري عن إسماعيل ابن أبي أويس عن الداروردي عن عبيد الله بن عبد الرحمن عن عبيد الله بن عمر وغربه . وقال: روى مبارك بن فضالة عن ثابت عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله إني أحب هذه السورة: قل هو الله أحد فقال: "إن حبك إياها أدخلك الجنة" وقد خرجه أحمد في "المسند" عن أبي النضر عن مبارك بن فضالة به .

                                                                                                                                                                                              وروى مالك عن عبيد الله بن عبد الرحمن عن عبيد بن حنين قال: سمعت أبا هريرة يقول: أقبلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسمع رجلا يقرأ: قل هو الله أحد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وجبت " قلت: وما وجبت؟ قال: "الجنة" . وأخرجه النسائي والترمذي وقال: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث مالك .

                                                                                                                                                                                              وروى أبو نعيم من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة عن مهاجر سمعت رجلا يقول: صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فسمع رجلا يقرأ: قل يا أيها الكافرون فقال: "قد برئ من الشرك " . وسمع آخر يقرأ: قل هو الله أحد فقال: "غفر له " .

                                                                                                                                                                                              ومنها: أنها تعدل ثلث القرآن ففي "صحيح البخاري " من حديث أبي سعيد أن رجلا سمع رجلا يقرأ: قل هو الله أحد يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له - وكان الرجل يتقالها - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن " . وقد روي عن أبي سعيد عن أخي قتادة بن النعمان به .

                                                                                                                                                                                              وفي "صحيح البخاري " أيضا من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي والضحاك المشرقي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ " فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله، فقال: "الله الواحد الصمد ثلث القرآن " .

                                                                                                                                                                                              وفي "المسند" من طريق ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن أبي الهيثم [ ص: 657 ] عن أبي سعيد قال: بات قتادة بن النعمان يقرأ الليل كله بـ قل هو الله أحد فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والذي نفسي بيده لتعدل نصف القرآن أو ثلثه " .

                                                                                                                                                                                              وفي "المسند" أيضا من طريق ابن لهيعة ، حدثنا حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو : أن أبا أيوب الأنصاري كان في مجلس وهو يقول: ألا يستطيع أحدكم أن يقوم بثلث القرآن كل ليلة؟ فقالوا: وهل يستطيع ذلك أحد؟ قال: فإن: قل هو الله أحد ثلث القرآن، قال: فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يسمع أبا أيوب . فقال: "صدق أبو أيوب " .

                                                                                                                                                                                              وروى يحيى بن سعيد عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم - قال الترمذي : اسمه سلمان - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احشدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن "، فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقرا: قل هو الله أحد ثم دخل فقال بعضنا لبعض: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن "، إني لأرى هذا خبرا جاءه من السماء، ثم خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن " . أخرجه مسلم .

                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن زائدة بن قدامة عن منصور عن هلال بن يساف عن الربيع بن خثيم عن عمرو بن ميمون عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن امرأة من الأنصار عن أبي أيوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فإنه من قرأ: قل هو الله أحد الله الصمد في ليلة فقد قرأ ليلتئذ ثلث القرآن " . ورواه النسائي والترمذي [ ص: 658 ] عن بندار .

                                                                                                                                                                                              وروى الترمذي عن قتيبة أيضا عن ابن مهدي، فهو لهما عشاري ولأحمد تساعي، وفي رواية الترمذي عن امرأة أبي أيوب عن أبي أيوب به، وذكر اختلافا في إسناده .

                                                                                                                                                                                              وروى أحمد عن هشيم عن حصين عن هلال بن يساف عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب أو رجل من الأنصار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ: قل هو الله أحد فكأنما قرأ بثلث القرآن " . ورواه النسائي في "اليوم والليلة" من طريق هشيم عن حصين عن ابن أبي ليلى به من غير ذكر هلال بن يساف . وروى الإمام أحمد أيضا عن وكيع عن سفيان عن أبي قيس عن عمرو بن ميمون عن أبي مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن " ورواه ابن ماجه والنسائي في "اليوم والليلة" من طرق . وفي بعض طرقه وقفه .

                                                                                                                                                                                              ورواه أبو نعيم من طريق مسعر عن أبي قيس عن عمرو بن ميمون عن أبي مسعود الأنصاري، كذا قال . ومن طريق شعبة عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود . وروى أبو نعيم من طريق علي بن عاصم عن حصين عن هلال بن يساف [ ص: 659 ] عن ربيع بن خثيم عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ: قل هو الله أحد في يوم وليلة ثلاث مرات كانت تعدل ثلث القرآن " .

                                                                                                                                                                                              ورواه شعبة عن علي بن مدرك عن إبراهيم النخعي عن الربيع بن خثيم عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وروى أبو نعيم حدثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى، ثنا أحمد بن حمدون ابن رستم، ثنا علي بن إشكاب، ثنا شجاع بن الوليد، ثنا زياد بن خيثمة . عن محمد بن جحادة ، عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " قل هو الله أحد ثلث القرآن "، قال إبراهيم: هكذا حدثني به وكتبه لي بخطه وإنما يحفظ الإسناد قراءة يس .

                                                                                                                                                                                              وروى يوسف بن عطية الصفار: ثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ: قل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن، وكتب له من الحسنات بعدد من أشرك بالله وآمن به " .

                                                                                                                                                                                              وفي "صحيح مسلم " من طريق قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيعجز أحدكم أن يقرأ كل يوم ثلث القرآن؟ " قالوا: نعم، قال: "إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فـ قل هو الله أحد ثلث القرآن " . وروى أمية بن خالد عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه عن حميد بن [ ص: 660 ] عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قل هو الله أحد ثلث القرآن "، رواه أحمد والنسائي في "اليوم والليلة" . ورواه أيضا من طريق مالك عن الزهري عن حميد من قوله، ورواه أيضا من طريق ابن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن الزهري عن حميد أن نفرا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - حدثوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن لمن صلى بها" . وروى الحافظ أبو يعلى عن قطن بن نسير عن عبيس بن ميمون عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أما يستطيع أحدكم أن يقرأ: قل هو الله أحد ثلاث مرات في ليلة فإنها تعدل ثلث القرآن " إسناده ضعيف . ويستدل به على أن المراد بكونها تعدل ثلث القرآن، أجره وثوابه، كما يستدل بحديث أبي الدرداء المتقدم على أنها جزء التوحيد من القرآن، وأنه - ثلاثة أجزاء: توحيد، وتشريع، وقصص .

                                                                                                                                                                                              ومنها: أن قراءتها تكفي من الشر، وتمنعه، وقد ثبت في "صحيح البخاري " عن عائشة : "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه قرأها مع المعوذتين ومسح ما استطاع من جسده " . وروى أبو داود والترمذي والنسائي من طريق معاذ بن عبد الله بن [ ص: 661 ] خبيب عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "قل قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثا تكفيك كل يوم " وصححه الترمذي .

                                                                                                                                                                                              ورواه النسائي من طريق أخرى عن معاذ عن عبد الله بن خبيب عن أبيه عن عقبة بن عامر فذكره ولفظه: "تكفك كل شيء" .

                                                                                                                                                                                              وقال البزار في "مسنده ": حدثنا إبراهيم الجوهري: ثنا غسان بن عبيد عن أبي عمران الجوني ، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وضعت جنبك على الفراش، وقرأت فاتحة الكتاب، و قل هو الله أحد فقد أمنت من كل شيء إلا الموت " . ومنها: أنها أفضل سور القرآن، فروى الدارمي في "مسنده " عن أبي المغيرة عن صفوان عن أيفع بن عبيد الكلاعي قال: قال رجل: يا رسول الله، أي سور القرآن أعظم؟ قال: " قل هو الله أحد " .

                                                                                                                                                                                              وفي "المسند" من طريق معاذ بن رفاعة عن علي بن يزيد، عن القاسم . عن أبي أمامة ، عن عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم؟ " قلت: بلى . قال: "فأقرأني: قل هو الله أحد و قل أعوذ برب الفلق و قل أعوذ برب الناس " ثم قال لي: "يا عقبة، لا تنسهن ولا تبت ليلة حتى تقرأهن" . وروى الترمذي بعض هذا الحديث وحسنه، ورواه أحمد أيضا بطوله من طريق [ ص: 662 ] أسيد بن عبد الرحمن الخثعمي عن فروة بن مجاهد عن عقبة بن عامر به .

                                                                                                                                                                                              ومنها: أن الدعاء بها مستجاب، ففي السنن الأربعة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يصلي يدعو يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، قال: "والذي نفسي بيده لقد سأله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب " . وقال الترمذي : حسن غريب .

                                                                                                                                                                                              وفي "المسند" عن محجن بن الأدرع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد، فإذا هو برجل قد قضى صلاته وهو يتشهد وهو يقول: اللهم إني أسألك بأنك الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم . فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات: "قد غفر له، قد غفر له، قد غفر له " .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية