الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ومنها وجوب الدية ، والكلام في الدية في مواضع في بيان شرائط وجوب الدية ، وفي بيان ما تجب منه الدية من الأجناس ، وفي بيان مقدار الواجب من كل جنس ، وفي بيان صفته ، وفي بيان من تجب عليه الدية ، وفي بيان كيفية الوجوب .

                                                                                                                                أما الشرائط فبعضها شرط أصل الوجوب ، وبعضها شرط كمال الواجب ، أما شرط أصل الوجوب فنوعان : أحدهما : العصمة ، وهو أن يكون المقتول معصوما فلا دية في قتل الحربي والباغي لفقد العصمة ، فأما الإسلام فليس من شرائط وجوب الدية لا من جانب القاتل ولا من جانب المقتول ، فتجب الدية سواء كان القاتل أو المقتول مسلما أو ذميا أو حربيا مستأمنا .

                                                                                                                                وكذلك العقل ، والبلوغ حتى تجب الدية في مال الصبي ، والمجنون ، والأصل فيه قوله سبحانه وتعالى { ، ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } .

                                                                                                                                ولا خلاف في أنه إذا قتل ذميا أو حربيا مستأمنا تجب الدية لقوله تبارك وتعالى { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله } ، والثاني : التقوم ، وهو أن يكون المقتول متقوما ، وعلى هذا يبنى أن الحربي إذا أسلم في دار الحرب فلم يهاجر إلينا فقتله مسلم أو ذمي خطأ أنه لا تجب الدية عند أصحابنا ، خلافا للشافعي بناء على أن التقوم بدار الإسلام عندنا ، وعنده بالإسلام ، وقد ذكرنا تقرير هذا الأصل في كتاب السير .

                                                                                                                                ثم نتكلم في المسألة : ابتداء احتج الشافعي رحمه الله بقوله تبارك وتعالى { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } وهذا مؤمن قتل خطأ فتجب الدية .

                                                                                                                                ( ولنا ) قوله جلت عظمته وكبرياؤه { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } [ ص: 253 ] والاستدلال به من وجهين : أحدهما : أنه جعل التحرير جزاء القتل ، والجزاء يقتضي الكفاية فلو وجبت الدية معه لا تقع الكفاية بالتحرير ، وهذا خلاف النص ، والثاني : أنه سبحانه ، وتعالى جعل التحرير كل الواجب بقتله ; لأنه كل المذكور ، فلو أوجبنا معه الدية لصار بعض الواجب ، وهذا تغيير حكم النص .

                                                                                                                                وأما صدر الآية الكريمة فلا يتناول هذا المؤمن لوجهين : أحدهما : أنه سبحانه وتعالى ذكر المؤمن مطلقا فيتناول المؤمن من كل وجه ، وهو المستأمن دينا ، ودارا ، وهذا مستأمن دينا لا دارا ; لأنه مكثر سواد الكفرة ، ومن كثر سواد قوم فهو منهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                والثاني : أنه أفرد هذا المؤمن بالذكر والحكم ، ولو تناوله صدر الآية الشريفة لعرف حكمه به ، فكان الثاني تكرارا ، ولو حمل على المؤمن المطلق لم يكن تكرارا فكان الحمل عليه أولى ، أو يحتمل ما ذكرنا ، فيحمل عليه توفيقا بين الدليلين عملا بهما جميعا ، ثم عصمة المقتول تعتبر وقت القتل أم وقت الموت أم في الوقتين جميعا ؟ على أصل أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه تعتبر وقت القتل لا غير ، وعلى أصلهما تعتبر وقت القتل والموت جميعا ، وعلى قول زفر رحمه الله تعتبر وقت الموت لا غير ، وعلى هذا تخرج مسائل الرمي إذا رمى مسلما فارتد المرمي إليه ثم وقع به السهم ، وهو مرتد فمات ، فعلى الرامي الدية في قول أبي حنيفة رحمه الله إن كان خطأ تتحمله العاقلة ، وإن كان عمدا يكون في ماله ، وعندهما لا شيء عليه .

                                                                                                                                وكذا عند زفر ، وإن رمى مرتدا أو حربيا فأسلم ثم وقع السهم به ، ومات لا شيء عليه عند أصحابنا الثلاثة ، وعند زفر عليه الدية .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن الضمان إنما يجب بالقتل ، والفعل إنما يصير قتلا بفوات الحياة ، ولا عصمة للمقتول وقت فوات الحياة ، فكان دمه هدرا ، كما لو جرحه ثم ارتد فمات ، وهو مرتد ، لهما أن للقتل تعلقا بالقاتل والمقتول ; لأنه فعل القاتل ، وأثره يظهر في المقتول بفوات الحياة ، فلا بد من اعتبار العصمة في الوقتين جميعا ، ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن الضمان إنما يجب على الإنسان بفعله ، ولا فعل منه سوى الرمي السابق فكان الرمي السابق عند وجود زهوق الروح قتلا من حين وجوده ، والمحل كان معصوما في ذلك الوقت ، فكان ينبغي أن يجب القصاص إلا أنه سقط للشبهة فتجب الدية .

                                                                                                                                ولهذا لو كان مرتدا أو حربيا وقت الرمي ثم أسلم فأصابه السهم وهو مسلم أنه لا شيء عليه عندهما ، وهذه المسألة حجة قوية لأبي حنيفة رضي الله عنه عليهما في اعتبار وقت الرمي لا غير ، والدليل عليه أن في باب الصيد يعتبر وقت الرمي في قولهم جميعا ، حتى لو كان الرامي مسلما وقت الرمي ثم ارتد فأصاب السهم الصيد ، وهو مرتد ، يؤكل ، وإن كان الباب باب الاحتياط ، وبمثله لو كان مجوسيا وقت الرمي ثم أسلم ثم وقع السهم بالصيد وهو مسلم لا يؤكل ، وكذلك حلال رمى صيدا ثم أحرم ثم أصابه ، لا شيء عليه .

                                                                                                                                وإن رمى وهو محرم ثم حل فأصابه فعليه الجزاء فهذه المسائل حجج أبي حنيفة رضي الله عنه في اعتبار وقت الفعل ، والأصل أن ما يرجع إلى الأهلية تعتبر فيه أهلية الفاعل وقت الفعل بلا خلاف ، وما كان راجعا إلى المحل فهو على الاختلاف الذي ذكرنا ، بخلاف ما إذا جرح مسلما ثم ارتد المجروح فمات وهو مرتد أنه يهدر دمه ; لأن الجرح السابق انقلب قتلا بالسراية ، وقد تبدل المحل حكما بالردة ، فيوجب انقطاع السراية عن ابتداء الفعل كتبدل المحل حقيقة ، ولم يوجد هذا المعنى في مسألتنا .

                                                                                                                                ولو رمى عبدا فأعتقه مولاه ثم وقع به السهم فمات فلا دية عليه ، وعليه قيمته لمولاه في قول أبي حنيفة عليه الرحمة .

                                                                                                                                وقال محمد على الرامي لمولى العبد فضل ما بين قيمته مرميا إلى غير مرمي ، لا شيء عليه غير ذلك ، وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي رحمه الله قول أبي يوسف مع قول محمد أنه لما رمى إليه فقد صار ناقصا بالرمي في ملك مولاه قبل وقوع السهم به ; لأنه أشرف على الهلاك بتوجه السهم إليه ، فوجب عليه ضمان النقصان ، فصار كما لو جرحه ثم أعتقه مولاه ، ولو كان كذلك لانقطعت السراية ، ولا يضمن الدية ، ولا القيمة ، وإنما يضمن النقصان كذا هذا ، وأبو حنيفة رضي الله عنه مر على أصله ، وهو اعتبار وقت الفعل ; لأنه صار قاتلا بالرمي السابق ، وهو كان ملك المولى حينئذ .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية