الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) بيان من تجب عليه الدية فالدية تجب على القاتل ; لأن سبب الوجوب هو القتل ، وإنه وجد من القاتل ، ثم ( الدية ) الواجبة على القاتل نوعان : نوع يجب عليه في ماله ، ونوع يجب عليه كله ، وتتحمل عنه العاقلة ، بعضه بطريق التعاون إذا كان له عاقلة ، وكل دية وجبت بنفس القتل الخطأ أو شبه العمد تتحمله العاقلة ، وما لا فلا ، فلا تعقل الصلح ; لأن بدل الصلح ما وجب بالقتل بل بعقد الصلح ، ولا الإقرار ; لأنها وجبت بالإقرار بالقتل لا بالقتل ، وإقراره حجة في حقه لا في حق غيره ، فلا يصدق في حق العاقلة ، حتى لو صدقوا عقلوا ، ولا العبد بأن قتل إنسانا خطأ ; لأن الواجب بنفس القتل الدفع لا الفداء .

                                                                                                                                والفداء يجب باختيار المولى لا بنفس القتل ، ولا العمد بأن قتل الأب ابنه عمدا ; لأنها وإن وجبت بالقتل فلم تجب بالقتل الخطأ أو شبه العمد ، وهذا لأن التحمل من العاقلة في الخطأ وشبه العمد على طريق التخفيف على الخاطئ ، والعامد لا يستحق التخفيف ، وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : { لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما دون أرش الموضحة } وقيل في معنى قوله عليه الصلاة والسلام " ولا عبدا " أن المراد منه العبد المقتول ، وهو الذي قتله مولاه ، وهو مأذون مديون ، أو المكاتب لا العبد القاتل ; لأنه لو كان كذلك لكان من حق الكلام أن يقول : لا تعقل العاقلة عن عبد ; لأن العرب تقول : عقلت عن فلان إذا كان فلان قاتلا ، وعقلت فلانا إذا كان فلان مقتولا .

                                                                                                                                كذا فرق الأصمعي ثم الوجوب على القاتل فيما تتحمله العاقلة قول عامة المشايخ .

                                                                                                                                وقال بعضهم : كل الدية في هذا النوع تجب على الكل ابتداء ، القاتل والعاقلة جميعا والصحيح هو الأول لقوله سبحانه وتعالى { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } ، ومعناه فليتحرر ، وليود ، وهذا خطاب للقاتل لا للعاقلة دل أن الوجوب على القاتل ، ولما ذكرنا أن سبب الوجوب هو القتل .

                                                                                                                                وأنه وجد من القاتل لا من العاقلة فكان الوجوب عليه لا على العاقلة ، وإنما العاقلة تتحمل دية واجبة عليه ، ثم دخول القاتل مع العاقلة في التحمل مذهبنا .

                                                                                                                                وقال الشافعي رحمه الله : القاتل لا يدخل معهم بل تتحمل العاقلة الكل دون القاتل .

                                                                                                                                وقال أبو بكر الأصم يتحمل القاتل دون العاقلة ; لأنه لا يجوز أن يؤاخذ أحد بذنب غيره قال الله سبحانه ، وتعالى { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } وقال جلت عظمته { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ولهذا لم تتحمل العاقلة ضمان الأموال ، ولا ما دون نصف عشر الدية ، كذا هذا .

                                                                                                                                ( ولنا ) أنه عليه الصلاة والسلام { قضى بالغرة على عاقلة الضاربة } ، وكذا قضى سيدنا عمر رضي الله عنه بالدية على العاقلة بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير .

                                                                                                                                وأما الآية الشريفة فنقول بموجبها لكن لم قلتم أن الحمل على العاقلة أخذ بغير ذنب ؟ ، فإن حفظ القاتل واجب على عاقلته ، فإذا لم يحفظوا فقد فرطوا ، والتفريط منهم ذنب ، ولأن القاتل إنما يقتل بظهر عشيرته فكانوا كالمشاركين له في القتل ، ولأن الدية مال كثير فإلزام الكل القاتل إجحاف به فيشاركه العاقلة في التحمل تخفيفا ، وهو مستحق التخفيف ; لأنه خاطئ ، وبهذا فارق ضمان المال ; لأن ضمان المال لا يكثر عادة فلا تقع الحاجة إلى التخفيف ، وما دون نصف عشر الدية حكمه حكم ضمان الأموال .

                                                                                                                                ( وأما ) الكلام مع الشافعي رحمه الله فوجه قوله أنه عليه السلام { قضى بالدية على العاقلة } فلا يدخل فيه القاتل ، وإنا نقول نعم ، لكن معلولا بالنصرة والحفظ ، وذلك على القاتل أوجب فكان أولى بالتحمل .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية