الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                فأما إذا كان القاتل حرا والمقتول عبدا فالعبد المقتول لا يخلو إما أن كان عبد أجنبي ( وإما ) أن كان عبدا لقاتل ، فإن كان عبد أجنبي فيتعلق بهذا القتل حكمان : أحدهما : وجوب القيمة ، والكلام في القيمة في مواضع : في بيان مقدار الواجب منها ، وفي بيان من تجب عليه ، وفي بيان من يتحمله ، وفي بيان كيفية الوجوب .

                                                                                                                                أما الأول : فالعبد لا يخلو إما إن كان قليل القيمة .

                                                                                                                                ( وإما ) إن كان كثير القيمة ، فإن كان قليل القيمة بأن كان قيمته أقل من عشرة آلاف درهم يجب قيمته بالغة ما بلغت بالإجماع ، وإن كانت قيمته عشرة آلاف أو أكثر اختلف فيه ، قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله : يجب عشرة آلاف إلا عشرة .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف في غير رواية الأصول أنه يجب قيمته بالغة ما بلغت ، وهو قول الشافعي رحمه الله .

                                                                                                                                والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مثل مذهبنا .

                                                                                                                                وروي عن سيدنا عثمان وسيدنا علي رضي الله تعالى عنهما مثل مذهبه ، والحاصل أن العبد آدمي ومال ; لوجود معنى الآدمية والمالية فيه ، وكل واحد منهما معتبر مضمون بالمثل والقيمة حالة الانفراد ، وبالقتل فوت المعنيين جميعا ، ولا وجه إلى إيجاب الضمان بمقابلة كل واحدة منهما على الانفراد فلا بد من إيجابه بمقابلة أحدهما وإهدار الآخر ، فيقع الكلام في الترجيح ، فادعى الشافعي رحمه الله الترجيح من وجهين : أحدهما : أن الواجب مال ، ومقابلة المال بالمال أولى من مقابلة المال بالآدمي ; لأن الأصل في ضمان العدوان الوارد على حق العبد أن يكون مقيدا بالمثل ، ولا مماثلة بين المال والآدمي ، فكان إيجابه بمقابلة المال موافقا للأصل ، فكان أولى .

                                                                                                                                والثاني : أن الضمان وجب حقا للعبد ، وحقوق العباد تجب بطريق الجبر .

                                                                                                                                وفي إيجاب الضمان بمقابلة المالية جبر حق المفوت عليه من كل وجه .

                                                                                                                                ( ولنا ) النص ودلالة الإجماع والمعقول ، أما النص فقوله تبارك وتعالى { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } وهذا مؤمن قتل خطأ فتجب الدية ، والدية ضمان الدم ، وضمان الدم لا يزاد على عشرة آلاف بالإجماع .

                                                                                                                                ( وأما ) دلالة الإجماع فهو أنا أجمعنا على أنه لو أقر على نفسه بالقصاص يصح وإن كذبه المولى ، لولا أن الترجيح لمعنى الآدمية لما صح ; لأنه يكون إقراره إهدارا لمال المولى قصدا من غير رضاه ، وإنه لا يملك ذلك .

                                                                                                                                ( وأما ) المعقول فمن وجهين : أحدهما : أن الآدمية فيه أصل ، والمالية عارض ، وتبع ، والعارض لا يعارض والتبع لا يعارض الأصل ، والتبع لا يعارض الأصل المتبوع ، ودليل أصالة الآدمية من وجوه : أحدها : أنه كان خلق خلقا آدميا ثم ثبت فيه وصف المالية بعارض الرق ، والثاني : أن قيام المالية فيه بالآدمية وجودا وبقاء لا على القلب ، والثالث : أن المال خلق وقاية للنفس ، والنفس ما خلقت وقاية للمال ، فكانت الآدمية فيه أصلا وجودا [ ص: 258 ] وبقاء وعرضا ، والثاني : أن حرمة الآدمي فوق حرمة المال ; لأن حرمة المال لغيره ، وحرمة الآدمي لعينه ، فكان اعتبار النفسية ، وإهدار المالية أولى من القلب ، إلا أنه نقصت ديته عن دية الحر لكون الكفر منقصا في الجملة ، وإظهارا لشرف الحرية ، وتقدير النقصان بالعشرة ثبت توفيقا قال ابن مسعود رضي الله عنه : ينقص من دية الحر عشرة دراهم فالظاهر أنه قال ذلك سماعا منه عليه الصلاة والسلام ; لأنه من باب المقادير ، أو لأن هذا أدنى مال له في خطر الشرع كما في نصاب السرقة والمهر في النكاح قوله : " المال ليس بمثل للآدمي " قلنا : نعم ، لكن لشرف الآدمي وجه المال لم يجعل مثلا له عند إمكان إيجاب ما هو مثل له من كل وجه ، وهو النفس ، فأما عند تعذر اعتباره من كل وجه فاعتبار المثل من وجه أولى من الإهدار ، وقوله : " الجبر في المال أبلغ " قلنا : بلى ، لكن فيه إهدار الآدمي ، ومقابلة الجابر بالآدمي الفائت أولى من المقابلة بالمال الهالك ، وإن كان الجبر ثمة أكثر لكن فيه اعتبار جانب المولى فيكون لغيره ، وفيما قلنا الجبر أقل لكن فيه اعتبار جانب نفس الآدمي ، وهو العبد ، وحرمة الآدمي لعينه ، فكان ما قلناه أولى .

                                                                                                                                ولو كان المقتول أمة فإن كانت قليلة القيمة بأن كانت قيمتها أقل من خمسة آلاف فهي مضمونة بقدر قيمتها بالغة ما بلغت ، وإن كانت كثيرة القيمة بأن كانت قيمتها خمسة آلاف أو أكثر يجب خمسة آلاف إلا عشرة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ، وعلى رواية أبي يوسف رحمه الله له ، فهو قول الشافعي رحمه الله : تبلغ بالغة ما بلغت .

                                                                                                                                والكلام في الأمة كالكلام في العبد ، وإنما ينقص منها عشرة كما نقصت من دية العبد ، وإن اختلفا في قدر البدل ; لأن هذه دية البدل ; لأن هذه دية كاملة في الأمة فينقص في العبد ، بخلاف ما إذا قطع يد عبد تزيد نصف قيمته على خمسة آلاف أنه تجب خمسة آلاف إلا خمسة ; لأن الواجب هناك ليس بدية كاملة ، بل هو بعض الدية ; لأن اليد منه نصف ، فيجب نصف ما يجب في الكل ، والواجب في الأنثى ليس بعض دية الذكر بل هو دية كاملة في نفسها ، لكنها دية الأنثى .

                                                                                                                                ( وأما ) بيان من يجب عليه ومن يتحملها فإنها تجب على القاتل لوجود سبب الوجوب منه ، وهو القتل ، وتتحملها العاقلة في قولهما ، وعلى رواية أبي يوسف ، وهو قول الشافعي رحمه الله تجب في مال القاتل ، وهذا بناء على الأصل الذي ذكرنا : أن عندهما ضمان العبد بمقابلة النفس ، وضمان النفس تتحمله العاقلة .

                                                                                                                                وكدية الحر ، وعند الشافعي بمقابلة المالية ، وضمان المال لا تتحمله العاقلة بل يكون في مال المتلف كضمان سائر الأموال .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف في كثير القيمة أن يقدر عشرة آلاف تعقله العاقلة ; لأن ذلك القدر يجب بمقابلة النفسية ، وما زاد عليها لا تعقله ; لأنه يجب بمقابلة المالية .

                                                                                                                                ( وأما ) كيفية وجوب القيمة على العاقلة عندنا ، وقدر ما يتحمل كل واحد منهم فما ذكرنا في دية الحر من غير تفاوت ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية