الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                والثاني : وجوب الكفارة لعموم قوله تبارك وتعالى { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } من غير فصل بين الحر والعبد ، والله تعالى الموفق .

                                                                                                                                ولو كان المقتول مدبر إنسان أو أم ولده أو مكاتبه فحكمه حكم القن في جميع ما وصفنا ، وإن كان عبد القاتل فجناية المولى عليه هدر .

                                                                                                                                وكذا لو كان مدبره أو أم ولده لأن القيمة لو وجبت لوجبت له عليه .

                                                                                                                                وهذا ممتنع ، وإن كان مكاتبه فجناية المولى عليه لازمة ، وعلى المولى قيمته في ثلاث سنين ; لأن المكاتب فيما يرجع إلى كسبه وأرش جنايته حر فكان كسبه ، وأرشه له فالجناية عليه من المولى والأجنبي سواء ، ولا تعقلها العاقلة بل تكون على ماله لقوله عليه الصلاة والسلام { لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا } ، والمكاتب عندنا عبد ما بقي عليه درهم ; ولأن المكاتب على ملك مولاه ، وإنما ضمن جنايته بعد الكتابة .

                                                                                                                                والعقد ثابت بينهما غير ثابت في حق العاقلة ، ولهذا لا تعقل العاقلة الاعتراف ; لأن إقرار المقر حجة في حقه لا في حق غيره .

                                                                                                                                وكذلك جناية المولى على رقيق المكاتب ، وعلى ماله لازمة لما ذكرنا أنه أحق بكسبه من المولى ، والمولى كالأجنبي فيه .

                                                                                                                                وكذا إذا كان مأذونا مديونا فعلى المولى قيمته لتعلق حق الغرماء برقبته ، وبالقتل أبطل محل حقهم فتجب عليه قيمته ، وتكون في ماله بالنص ، وتكون حالة ; لأنه ضمان إتلاف المال .

                                                                                                                                هذا إذا كان القاتل حرا والمقتول عبدا ، فأما إذا كان القاتل عبدا والمقتول حرا فالحر المقتول لا يخلو من أن يكون أجنبيا أو يكون ولي العبد ، فإن كان أجنبيا فالعبد القاتل لا يخلو من أن يكون قنا أو مدبرا أو أم ولد أو مكاتبا ، فإن كان قلنا : يدفع إذا ظهرت جنايته إلا أن [ ص: 259 ] يختار المولى الفداء فلا بد من بيان ما تظهر به هذه الجناية ، وبيان حكم هذه الجناية ، وبيان صفة الحكم ، وبيان ما يصير به المولى مختارا للفداء ، وشرط صحة الاختيار ، وبيان صفة الفداء الواجب عند الاختيار .

                                                                                                                                أما الأول : فهذه الجناية تظهر بالبينة وإقرار المولى وعلم القاضي ، ولا تظهر بإقرار العبد محجورا كان أو مأذونا ; لأن العبد يملك بالإذن بالتجارة ما كان من مال التجارة ، والإقرار بالجناية ليس من التجارة ، وإذا لم يصح إقراره لا يؤخذ به لا في الحال ولا بعد العتاق ; لأن موجب إقراره لا يلزمه ، وإنما يلزم مولاه ، فكان هذا إقرارا على المولى حتى لو صدقه المولى صح إقراره ، وكذلك لو أقر بعد العتاق أنه كان جنى في حال الرق لا شيء عليه لما ذكرنا أن هذا إقرار له على المولى ، ألا يرى لو صدقه المولى وأقر أنه أعتقه ، وهو يعلم بالجناية فعلى المولى قيمته ؟ والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                وأما حكم هذه الجناية فوجب دفع العبد إلى ولي الجناية إلا أن يختار المولى الفداء عندنا ، وقال الشافعي رحمه الله حكمها تعلق الأرش برقبة العبد يباع فيه ويستوفى الأرش من ثمنه ، فإن فضل منه شيء فالفضل للمولى ، وإن لم يف ثمنه بالأرش يتبع بما بقي بعد العتاق ، وللمولى أن يستخلصه ، ويؤدي الأرش من مال آخر .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن الأصل في ضمان الجناية أنه يجب على الجاني ، والواجب على الإنسان إما أن يكون في ماله أو تتحمل العاقلة عنه ، والعبد لا مال له ، ولا عاقلة فتعذر الإيجاب عليه ، فتجب في رقبته ، يباع فيه كدين الاستهلاك في الأموال .

                                                                                                                                ( ولنا ) إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن سيدنا علي وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مثل مذهبنا بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ، ولم ينقل الإنكار عليهما من أحد منهم فيكون إجماعا منهم ، والقياس يترك بمعارضة الإجماع ، ودين الاستهلاك في باب الأموال يجب على العبد على ما عرف .

                                                                                                                                وأما صفة هذا الحكم فصيرورة العبد واجب الدفع على سبيل التعيين ، كثرت قيمة العبد أو قلت ، وعند اختيار المولى الفداء ينتقل الحق من الدفع إلى الفداء سواء كان المجني عليه واحدا أو أكثر ، غير أنه إن كان واحدا دفع إليه ، ويصير كله مملوكا له ، وإن كانوا جماعة يدفع إليهم ، وكان مقسوما بينهم على قدر أروش جنايتهم ، وسواء كان على العبد دين وقت الجناية أو لم يكن ، وبيان هذه الجملة في مسائل .

                                                                                                                                إذا مات العبد الجاني قبل اختيار الفداء بطل حق المجني عليه أصلا ; لأن الواجب دفع العبد على طريق التعيين ، وذلك لا يتصور بعد هلاك العبد فيسقط الحق أصلا ورأسا ، وهذا يدل على أن قول من يقول : " حكم هذه الجناية تخير المولى بين الدفع ، والفداء " ليس بسديد ; لأنه لو كان كذلك لتعين الفداء عند هلاك العبد ، ولم يبطل حق المجني عليه أصلا على ما هو الأصل في المخير بين شيئين إذا هلك أحدهما أنه يتعين عليه الآخر ، ولو مات بعد اختيار الفداء لا يبرأ بموت العبد ; لأنه لما اختار الفداء فقد انتقل الحق من رقبته إلى ذمة المولى فلا تحتمل السقوط بهلاك العبد بعد ذلك .

                                                                                                                                ولو كانت قيمة العبد أقل من الدية فليس على المولى إلا الدفع ; لأن وجوب الدفع حكمه لهذه الجناية ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، ولم يفصلوا بين قليل القيمة وكثيرها فلو جنى العبد على جماعة ، فإن شاء المولى دفعه إليهم ; لأن تعلق حق المجني عليه للأول لا يمنع حق الثاني والثالث ; لأن ملك المولى لما لم يمنع التعلق فالحق أولى ; لأنه دونه ، وإذا دفعه إليهم كان مقسوما بينهم بالحصص قدر أروش جنايتهم ، فإن حصة كل واحد منهم من العبد عوض عن الفائت فيتقدر بقدر الفائت ، وإن شاء أمسك العبد ، وغرم الجنايات بكمال أروشها ، ولو أراد المولى أن يدفع من العبد إلى بعضهم مقدار ما يتعلق به حقه ويفدي بعض الجنايات له ذلك ، بخلاف ما إذا كان القتيل واحدا وله وليان فأراد المولى دفع العبد إلى أحدهما ، والفداء إلى الآخر أنه ليس له ذلك ; لأن الجناية هناك واحدة ، ولها حكم واحد ، وهو وجوب الدفع على التعيين ، وعند اختيار الفداء وجوب الفداء على التعيين ، ولا يجوز أن يجمع في جناية واحدة بين حكمين مختلفين بخلاف ما إذا جنى على جماعة ; لأن الجناية هناك متعددة ، وله خيار الدفع والفداء في كل واحد منهما ، والدفع في البعض والفداء في البعض لا يكون جمعا بين حكمين مختلفين في جناية واحدة فهو الفرق ، ولو قتل إنسانا ، وفقأ عين آخر ، فإن اختار الدفع دفعه إليهما أثلاثا لتعلق حقهما بالعبد أثلاثا ، وإن اختار الفداء فدى عن كل جناية بأرشها ، وكذلك إذا شج إنسانا شجاجا مختلفة أنه إن دفع العبد إليهم كان مقسوما بينهم على قدر جناياتهم ، وإن اختار الفداء فدى عن الكل [ ص: 260 ] بأرشها .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية