الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                فإن كان مدبرا فجنايته على مولاه إذا ظهرت فيقع الكلام في مواضع في بيان ما تظهر به جنايته ، وفي بيان أصل الواجب ، ومن عليه ، وفي بيان مقدار الواجب ، وفي بيان صفته أما الأول : فجنايته تظهر بما تظهر به جناية القن ، وقد ذكرناه ، ولا تظهر بإقراره حتى لا يلزم المولى شيء ، ولا يتبع المدبر بعد العتاق كجناية القن ; لأن هذا إقرار على المولى فلا يصح .

                                                                                                                                ( وأما ) بيان أصل الواجب بهذه الجناية فأصل الواجب بها قيمة المدبر على المولى لإجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن سيدنا عمر ، وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما أنهما قضيا بجناية المدبر على مولاه بمحضر من الصحابة ، ولم ينقل أنه أنكر عليهما أحد منهم ، فيكون إجماعا من الصحابة .

                                                                                                                                والقياس يترك بمقابلة الإجماع ، ولأن الأصل في جناية العبد هو وجوب الدفع على المولى ، وبالتدبير منع من الدفع من غير اختيار الفداء ، والمنع من الدفع من غير اختيار الفداء يوجب القيمة على المولى كما لو دبر القن ، وهو لا يعلم الجناية .

                                                                                                                                ( وأما ) مقدار الواجب فمقدار الواجب بهذه الجناية الأقل من قيمته ومن الدية ; لأن الدية إن كانت هي الأقل فلا حق لولي الجناية في الزيادة ، وإن كانت القيمة أقل فلم يمنع المولى بالتدبير إلا الرقبة ، فإن كانت قيمته أقل من الدية فعليه قدر قيمته لما كان قنا ، ولا يخير بين قيمته وبين الدية ; لأنه يخير بين الأقل والأكثر ، وأنه خارج عن قضية الحكمة ، وإن كانت قيمته أكثر من الدية أو مثل [ ص: 267 ] الدية فعليه قدر الدية ، وينقص منها عشرة دراهم ; لأن قيمة العبد في الجناية لا تزاد على دية الحر بل ينقص منها عشرة ، وسواء قلت جنايته أو كثرت لا يلزم المولى من جناياته أكثر من قيمة واحدة ; لأن سبب الوجوب هو المنع عند الجناية .

                                                                                                                                والمنع منع واحد فكان الواجب قيمة واحدة ، ولأن القيمة في جناية المدبر بمنزلة العين في جناية القن قلت جنايته أو كثرت ، ولا يجب شيء آخر مع الدفع ، كذلك ههنا ، وتقسم قيمته بين أولياء الجنايات على قدر جناياتهم ، يستوي فيها الأول والثاني ; لأن القسمة في دفع العين هكذا ، فكذلك قيمة المدبر ، وسواء قبض ما على المولى أو لم يقبض يشتركون فيه فيتضاربون بقدر حقوقهم ، وتعتبر قيمة المدبر لكل واحد منهم يوم الجناية عليه لا يوم التدبير ، وإن كان سبب وجوب الضمان هو المنع ، وهو التدبير السابق لكن إنما يصير ذلك سببا عند وجود شرطه ، وهو الجناية فكأنه أنشأ التدبير عندهما ، وبيان هذه الجملة في مسائل : إذا مات المدبر بعد الجناية لم تبطل على المولى القيمة ; لأن حكم جنايته يلزم مولاه فيستوي فيه بقاء المدبر ، وهلاكه بخلاف القن إذا جنى ثم هلك أنه يبطل حكم الجناية أصلا ; لأن حكم جنايته وجوب الدفع ، وبالموت خرج عن احتمال الدفع ، ولو انتقصت قيمته بعد الجناية بأن جنى وقيمته ألف ثم عمي لم يحط عن المولى شيء ، وعليه قيمته تامة ; لأن نقصانه هلاك جزء منه ثم هلاك كله لا يسقط عنه شيئا فكذا هلاك البعض ، ولو قتل إنسانا ثم قتل آخر لا يلزم المولى إلا قيمة واحدة لما قلنا .

                                                                                                                                وكذلك لو جنى جنايات ثم أعتقه المولى لم يلزمه إلا قيمة واحدة ; لأن سبب وجوب الضمان هو المنع ، وأنه متحد ، فكان وجود الإعتاق ، وعدمه بمنزلة واحدة ، ولو قتل إنسانا خطأ ثم قتل آخر خطأ ثم دفع المولى القيمة إلى ولي القتيل الأول فالدفع لا يخلو إما أن كان بقضاء القاضي ، أو بغير قضاء القاضي ، فإن كان بقضاء القاضي فلا سبيل لولي القتيل الثاني على المولى ; لأنه كان مجبورا على الدفع ، والمجبور معذور ، وله أن يتبع ولي القتيل الأول بنصف القيمة ; لأنه قبض نصف القيمة بغير حق ، وإن كانت الجنايتان مختلفتين بإن كانت إحداهما نفسا ، والأخرى ما دون النفس فالثاني يتبع الأول بقدر حصته من القيمة ، وإن كان الدفع بغير قضاء القاضي فولي القتيل الثاني بالخيار : إن شاء ضمن المولى نصف القيمة ، وإن شاء ضمن ولي القتيل الأول لوجود سبب وجوب الضمان من كل واحد منهما ; لأن المولى متعد في دفع العبد ، والقابض متعد في قبضه ، فإن ضمن المولى فإنه يرجع على القابض ، وإن ضمن القابض لا يرجع على المولى .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية