الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              جماع أبواب ذكر دوابه ونعمه وغير ذلك مما يذكر

                                                                                                                                                                                                                              باب يذكر فيه خيله وبغاله وحمره- صلى الله عليه وسلم-

                                                                                                                                                                                                                              كان له صلى الله عليه وسلم سبعة أفراس . وكان له بغال ست وكان له من الحمر اثنان . وكان له من الإبل المعدة للركوب ثلاثة .

                                                                                                                                                                                                                              فأما أفراسه صلى الله عليه وسلم ، ففرسه يقال له السكب : شبه بسكب الماء وانصبابه ، لشدة جريه ، وهو أول فرس ملكه صلى الله عليه وسلم ، اشتراه من أعرابي بعشرة أواق ، وكان اسمه عند الأعرابي الضرس :

                                                                                                                                                                                                                              أي بفتح الضاد وكسر الراء وبالسين المهملة : الصعب السيء الخلق ، وكان أغر : أي له غرة ، وهي بياض في وجهه ، محجلا طلق اليمين ، كميتا : أي بين السواد والحمرة . وقال ابن الأثير :

                                                                                                                                                                                                                              كان أسود أدهم ، وفرس يقال له المرتجز : أي سمي به لحسن صهيله ، مأخوذ من الرجز الذي هو ضرب من الشعر ، وكان أبيض ، وهو الذي شهد له فيه خزيمة بأنه صلى الله عليه وسلم اشتراه من صاحبه بعد أنكر بيعه له ،

                                                                                                                                                                                                                              وقال له : ائت بمن يشهد لك ، فجعل شهادة خزيمة بشهادتين ، بعد أن قال له صلى الله عليه وسلم : كيف شهدت ولم تحضر ؟ فقال : لتصديقي إياك يا رسول الله ، وإن قولك كالمعاينة فقال له صلى الله عليه وسلم : أنت ذو الشهادتين ، فسمي ذا الشهادتين ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : «من شهد له ، خزيمة أو شهد عليه فهو حسيبه» لكن جاء أنه صلى الله عليه وسلم رد الفرس على الأعرابي وقال : «لا بارك الله لك فيها» فأصبحت من الغد شائلة برجلها .

                                                                                                                                                                                                                              وفرس يقال له اللحيف بالحاء المهملة واللام المضمومة فعيل بمعنى فاعل ، لأنه كان يلحف الأرض بذنبه لطوله : أي يغطيها . وقيل لأنه كان يلتحف معرفته . وقيل : هو بضم اللام مصغرا ، وقيل : بالخاء المعجمة مع فتح اللام وهو الأكثر . وهذا الفرس أهداه له صلى الله عليه وسلم فروة بن عمرو من أرض البلقاء بالشام . وفرس يقال له اللزاز ، أي أهداه له المقوقس كما تقدم ، مأخوذ من قولهم : لاززته : أي لاصقته ، فكان يلحق بالمطلوب لسرعته ، وقيل غير ذلك . وفرس يقال له الطرف أي بكسر الطاء المهملة وسكون الراء وبالفاء : الكريم الجيد من الخيل . وفرس يقال له الورد ، وهو بين الكميت والأشقر ، أهداه له صلى الله عليه وسلم تميم الداري رضي الله تعالى عنه ، وأهداه صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه . وفرس يقال له سبحة : أي بفتح السين وإسكان الموحدة وفتح الحاء المهملة : أي سريع الجري ، هذا هو المشهور . وعد بعضهم في خيله صلى الله عليه وسلم غير ذلك ، فأوصل جملتها إلى خمسة عشر بل إلى العشرين . وقد ذكر الحافظ الدمياطي أسماء الخمسة عشر في سيرته وقال فيها : وقد ذكرناها وشرحناها في كتابنا : كتاب الخيل . [ ص: 419 ]

                                                                                                                                                                                                                              وكان سرجه صلى الله عليه وسلم دفتين من ليف . قال : لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل .

                                                                                                                                                                                                                              وجاء أنه صلى الله عليه وسلم مسح وجه فرسه ومنخريه وعينيه بكم قميصه فقيل له : يا رسول الله تمسح بكم قميصك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إن جبريل عليه السلام عاتبني في الخيل» . وفي رواية : «في الفرس» أي في امتهانها . وفي رواية : «في سياستها» وقال : «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، وأهلها معانون عليها فخذوا بنواصيها ، وادعوا بالبركة»

                                                                                                                                                                                                                              اهـ .

                                                                                                                                                                                                                              أي وقد ذكر «أنه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قام إلى فرسه الطرف فعلق عليه شعيره ، وجعل صلى الله عليه وسلم يمسح ظهره بردائه ، فقيل له : يا رسول الله تمسح ظهره بردائك ؟ فقال : «نعم ، وما يدريك لعل جبريل عليه الصلاة والسلام أمرني بذلك» ؟ .

                                                                                                                                                                                                                              وعن بعضهم قال : دخلت على تميم الداري رضي الله تعالى عنه وهو أمير بيت المقدس ، فوجدته ينقي لفرسه شعيرا ، فقلت : أيها الأمير ما كان لهذا غيرك ؟ فقال :

                                                                                                                                                                                                                              إني سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول : «من نقى لفرسه شعيرا ثم جاء به حتى يعلقه عليه كتب الله له بكل شعيرة حسنة»
                                                                                                                                                                                                                              وكان صلى الله عليه وسلم يضمر الخيل للسباق ، فيأمر بإضمارها بالحشيش اليابس شيئا بعد شيء ، ويأمر بسقيها غدوة وعشيا ، ويأمر أن يقودها كل يوم مرتين ، ويؤخذ منها من الجري الشوط والشوطان .

                                                                                                                                                                                                                              وأما بغاله صلى الله عليه وسلم ، فبغلة شهباء يقال لها دلدل ، أهداها له المقوقس كما تقدم . والدلدل في الأصل : القنفذ ، وقيل : ذكر القنافذ ، وقيل : عظيمها ، وهذه أول بغلة ركبت في الإسلام . وفي لفظ : رئيت في الإسلام ، وكان صلى الله عليه وسلم يركبها في المدينة وفي الأسفار . وعاشت حتى ذهبت أسنانها ، فكان يدق لها الشعير ، وعميت . وقاتل عليها علي كرم الله وجهه الخوارج بعد أن ركبها عثمان رضي الله تعالى عنه ، وركبها بعد علي ابنه الحسن ثم الحسين رضي الله تعالى عنهما ، ثم محمد ابن الحنفية رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                              وسئل ابن الصلاح رحمه الله : هل كانت أنثى أو ذكرا والتاء للوحدة ، فأجاب بالأول .

                                                                                                                                                                                                                              قال بعضهم : وإجماع أهل الحديث على أنها كانت ذكرا ، ورماها رجل بسهم فقتلها . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إلى زوجته أم سلمة ، فأتيته بصوف وليف ، ثم فتلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم لدلدل رسنا وعذارا ، ثم دخل البيت فأخرج عباءة فثناها ثم ربعها على ظهرها ، ثم سمى وركب ، ثم أردفني خلفه» . وبغلة يقال لها فضة ، أهداها له عمرو بن عمرو الجذامي كما تقدم . ووهبها صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه ، أي وأوصلها بعضهم إلى سبعة . [ ص: 420 ]

                                                                                                                                                                                                                              وفي [مزيل الخفاء] وفي [سيرة مغلطاي] : كان له صلى الله عليه وسلم من البغال دلدل وفضة ، والتي أهداها له ابن العلماء : أي بفتح العين المهملة وإسكان اللام وبالمد في غزوة تبوك ، والأيلية :

                                                                                                                                                                                                                              وبغلة أهداها له كسرى ، وأخرى من دومة الجندل ، وأخرى من عند النجاشي هذا كلامه .

                                                                                                                                                                                                                              وعقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه كان صاحب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقود به في الأسفار ، وتوفي بمصر ودفن بقرافتها ، وقبره معروف بها ، وكان واليها من قبل معاوية بعد عتبة ابن أبي سفيان ، ثم صرف عنها بمسلمة بن مخلد .

                                                                                                                                                                                                                              وعن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال : قدت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته مدة من الليل ، فقال : أنخ ، فأنخت فنزل عن راحلته ، ثم قال : اركب فقلت : سبحان الله أعلى مركبك يا رسول الله وعلى راحلتك ؟ فأمرني ، فقال : اركب ، فقلت له مثل ذلك ، ورددت ذلك مرارا حتى خفت أن أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم فركبت راحلته . ذكره في الإمتاع .

                                                                                                                                                                                                                              وأما حمره صلى الله عليه وسلم ، فحمار يقال له يعفور . وحمار يقال له عفير بالعين المهملة ، وقيل :

                                                                                                                                                                                                                              بالمعجمة وغلط قائله وكان أشهب ، ومات في حجة الوداع . والأول أهداه له فروة بن عمرو الجذامي ، وقيل : المقوقس . والثاني أهداه له المقوقس ، وقيل : فروة بن عمرو كذا في سيرة الحافظ الدمياطي رحمه الله ، والعفرة هي الغبرة ، أي وأوصل بعضهم حمره صلى الله عليه وسلم إلى أربعة .

                                                                                                                                                                                                                              وتقدم أن يعفورا وجده صلى الله عليه وسلم في خيبر ، وأنه يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم طرح نفسه في بئر جزعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات ، وتقدمت قصته وما فيها .

                                                                                                                                                                                                                              وأما إبله صلى الله عليه وسلم التي كان يركبها . فناقة يقال لها القصواء . وناقة يقال لها الجدعاء ، وناقة يقال لها العضباء ، وهي التي كانت لا تسبق فسبقت ، فشق ذلك على المسلمين ،

                                                                                                                                                                                                                              فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه»
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية : «إن الناس لم يرفعوا شيئا من الدنيا إلا وضعه الله عز وجل»

                                                                                                                                                                                                                              ويقال إن هذه العضباء لم تأكل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تشرب حتى ماتت ، وقيل إن التي كانت لا تسبق ثم سبقت هي القصواء ، وكانت العضباء يسبق بها صاحبها الذي كانت عنده الحاج ، ومن ثم قيل لها : سابقة الحاج . وقيل إن هذه الثلاث اسم لناقة واحدة وهو المفهوم من الأصل ، وهو موافق في ذلكلابن الجوزي رحمه الله حيث قال إن القصواء هي العضباء وهي الجدعاء .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : القصواء واحدة والعضباء والجدعاء واحدة . وفي كلام بعضهم : وأما البقر فلم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم ملك شيئا منها : أي للقنية فلا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه بالبقر .

                                                                                                                                                                                                                              وأما غنمه صلى الله عليه وسلم ، فقيل مائة ، وقيل سبعة أعنز كانت ترعاها أم أيمن رضي الله تعالى عنها ،

                                                                                                                                                                                                                              وجاء «اتخذوا الغنم فإنها بركة»

                                                                                                                                                                                                                              وكان له صلى الله عليه وسلم شياه يختص بشرب لبنها ،

                                                                                                                                                                                                                              وماتت له صلى الله عليه وسلم شاة . [ ص: 421 ]

                                                                                                                                                                                                                              فقال : ما فعلتم بإهابها ؟ قالوا : إنها ميتة ، قال : دباغها طهورها
                                                                                                                                                                                                                              . واقتنى صلى الله عليه وسلم الديك الأبيض ، وكان يبيت معه في البيت وقال : «الديك الأبيض صديقي وصديق صديقي وعدو عدوي ، والله يحرس دار صاحبه وعشرا عن يمينها ، وعشرا عن يسارها ، وعشرا من بين يديها ، وعشرا من خلفها»

                                                                                                                                                                                                                              وقد جاء «اتخذوا الديك الأبيض فإن دارا فيها ديك أبيض لا يقربها شيطان ولا ساحر ولا الدويرات حولها ، واتخذوا هذا الحمام المقاصيص في بيوتكم فإنها تلهي الجن عن صبيانكم» .

                                                                                                                                                                                                                              وفي العرائس : «إن آدم قال : يا رب شغلت بطلب الرزق لا أعرف ساعات التسبيح من أيام الدنيا فأهبط الله ديكا وأسمعه أصوات الملائكة بالتسبيح ، فهو أول داجن اتخذه آدم عليه السلام من الخلق ، فكان الديك إذا سمع التسبيح ممن في السماء سبح في الأرض ، فيسبح آدم بتسبيحه» .

                                                                                                                                                                                                                              وأما دوابه صلى الله عليه وسلم من البغال والحمير والإبل

                                                                                                                                                                                                                              عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : كانت دلدل بغلة النبي صلى الله عليه وسلم أول بغلة ركبت في الإسلام أهداها المقوقس ، وأهدى معها حمارا يقال له عفير . وكانت قد بقيت حتى كان زمان معاوية .

                                                                                                                                                                                                                              عن محمد بن إسحاق ، عن رجل قال : رأيت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل عبد الله بن جعفر يجش أو يدق لها الشعير ، وقد ذهبت أسنانها .

                                                                                                                                                                                                                              وعن زامل بن عمرو قال : أهدى فروة بن عمرو الجذامي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة يقال لها فضة ، فوهبها لأبي بكر الصديق ، وحماره يعفور نفق منصرفه من حجة الوداع . قال : وقال معمر عن الزهري قال : دلدل أهداها فروة بن عمرو الجذامي ، وحضر رسول الله- صلى الله عليه وسلم عليها القتال يوم حنين .

                                                                                                                                                                                                                              قال محمد بن عمر : وأخبرنا أصحابنا جميعا قالوا : كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء من نعم بن قشير .

                                                                                                                                                                                                                              قال محمد بن عمر : وحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي قال :

                                                                                                                                                                                                                              كانت من نعم بني قشير ابتاعها أبو بكر الصديق ، وأخرى معها بثمانمائة درهم ، فأخذها رسول الله- صلى الله عليه وسلم ، وهي التي هاجر عليها ، وكانت حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم رباعية ، فلم تزل عنده حتى نفقت ، وكان اسمها القصواء والجدعاء ، والعضباء كل هذا كان يقال لها ، القصواء قطع في أذنها يسير ، والعضباء مثلها ، والجدعاء النصف من الأذن . [ ص: 422 ]

                                                                                                                                                                                                                              وقال قتادة : سألت سعيد بن المسيب عن العضب في الأذن ؟ قال : النصف فما فوقه
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وعن أنس بن مالك قال : كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق ، فجاء أعرابي على ناقة فسابقها فسبقها فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

                                                                                                                                                                                                                              إن من قدرة الله عز وجل أن لا يرفع شيء إلا وضعه
                                                                                                                                                                                                                              . [ ص: 423 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية