الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

في بيان أنه لا يأتي المعطل للتوحيد العلمي الخبري بتأويل إلا أمكن المشرك المعطل للتوحيد العملي أن يأتي بتأويل من جنسه

وقد اعترف حذاق الفلاسفة وفضلاؤهم فقال أبو الوليد بن رشد في كتاب ( الكشف عن مناهج الأدلة ) القول في الجهة : وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة يثبتونها لله سبحانه وتعالى حتى نفتها المعتزلة ، ثم اتبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله ، وظواهر الشرع كله تقتضي إثبات الجهة ، مثل قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) ومثل قوله : ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) ومثل قوله تعالى : ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) ومثل قوله : ( تعرج الملائكة والروح إليه ) ومثل قوله : ( أأمنتم من في السماء ) إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عاد الشرع كله متأولا ، وإن قيل فيها : إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابها ; لأن الشرائع كلها مبينة أن الله في السماء ، ومنه تنزل الملائكة إلى النبيين بالوحي ، وأن من السماء نزلت الكتب ، وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى قرب من سدرة المنتهى ، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك . والشبهة التي قادت نفاة الجهمية إلى نفيها هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان ، وإثبات المكان يوجب إثبات الجهة ، ونحن نقول : إن إثبات هذا كله غير لازم ، فالجهة غير المكان ، وذلك أن الجهة إما سطوح الجسم نفسه المحيط به ، وهي ستة ، وبهذا نقول : إن للحيوان فوق وأسفل ويمينا وشمالا وأماما وخلفا ، وإما [ ص: 69 ] سطوح جسم آخر يحيط بالجسم ذي الجهات الست ، فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلا ، وأما سطوح الأجسام المحيطة فهي له مكان مثل سطوح الهواء المحيط بالإنسان ، وسطوح الفلك المحيط بسطوح الهواء هي أيضا مكان هواء ، وهكذا الأفلاك بعضها محيطة ببعض ومكان له ، وأما سطح الفلك الخارج فقد تبرهن أنه ليس خارجه جسم ، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون خارج ذلك الجسم جسم آخر ، ويمر إلى غير نهاية ، فإذن سطح آخر أجسام العالم ليس مكانا أصلا ، إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم ، فإذن إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم ، والذي يمنع وجوده هناك هو عكس ما ظنه القوم ، وهو موجود هو جسم لا موجود ليس بجسم .

وليس لهم أن يقولوا : إن خارج العالم خلاء ، وذلك أن الخلاء قد تبين في العلوم النظرية امتناعه ; لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئا كثر من أبعاد ليس فيها جسم ، أعني طولا وعرضا وعمقا ، لأنه إن رفعت الأبصار عنه عاد عدما ، وإن فرضت الخلاء موجودا لزم أن يكون أعراضا موجودة في غير جسم ، وذلك أن الأبعاد هي أعراض في باب الكمية ولا بد ، ولكنه قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة : إن ذلك الموضع ليس بمكان ولا يحويه زمان ، وكذلك إن كان كل ما يحويه المكان والزمان فاسدا فقد يلزم أن يكون ما هنالك غير فاسد ولا كائن ، وقد بين هذا المعنى ما أقوله ، وذلك أنه لما لم يكن هاهنا شيء إلا هذا الموجود المحسوس أو العدم ، وكان من المعروف بنفسه أن الموجود شيء إنما ينسب إلى الوجود ، أعني أنه يقال : موجودا أي في الوجود ، إذ لا يمكن أن يقال : إنه موجود في العدم ، فإن كان موجود هو أشرف الموجودات فواجب أن ينتسب من الموجود المحسوس إلى الحيز الأشرف وهي السماوات ، ولشرف هذا الحيز قال تعالى : ( لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) وهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم .

فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل ، وأنه الذي جاء به الشرع وابتني عليه ، فإن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع ، وإن وجه العسر في تفهم هذا المعنى مع نفي الجسمية هو أنه ليس في المشاهد مثال له ، فهو بعينه السبب في [ ص: 70 ] أنه لم يصرح الشرع بنفي الجسم عن الخالق سبحانه وتعالى ; لأن الجمهور إنما يقع لهم التصديق بحكم الغائب متى كان ذلك معلوم الوجود في الشاهد ، مثل العلم بالصانع ، فإنه لما كان في الشاهد شرطا في وجوده كان شرطا في وجود الصانع الغائب ، وأما متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد عند الأكثر ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون كان الشرع يزجر عن طلب معرفته إن لم يكن بالجمهور حاجة إلى معرفته ، مثل العلم بالنفس لم يضرب له مثال في الشاهد ، إذ لم يكن بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم .

والشبهة الواقعة في نفي الجهة عند الذين نفوها ليس يتفطن الجمهور إليها ، لا سيما إذا لم يصرح لهم بأنه ليس بجسم ، فيجب أن يتمثل في هذا كله فعل الشرع ، وأن لا يتأول ما لم يصرح الشرع بتأويله .

والناس في هذه الأشياء في الشرع على ثلاث مراتب : صنف لا يشعرون بالشكوك العارضة في هذا المعنى خاصة ، متى تركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع ، وهؤلاء هم الأكثرون وهم الجمهور ، وصنف عرفوا حقيقة الأشياء وهم العلماء الراسخون في العلم ، وهؤلاء هم الأقل من الناس ، وصنف عرضت لهم في هذه الأشياء شكوك ولم يقدروا على حلها ، وهؤلاء فوق العامة دون العلماء ، وهذا الصنف هم الذين يوجد في حقهم التشابه في الشرع ، وهم الذين ذمهم الله ، وأما عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابه ، فعلى هذا المعنى ينبغي أن يفهم التشابه .

ومثال ما عرض لهذا الصنف مع الشرع ما يعرض في خبز البر مثلا الذي هو الغذاء النافع لأكثر الأبدان أن يكون لأقل الأبدان ضارا وهو نافع للأكثر ، وكذلك التعليم الشرعي هو نافع للأكثر ، وربما ضر للأقل ، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) لكن هذا إنما يعرض في آيات الكتاب العزيز في الأقل منه وللأقل من الناس ، وأكثر ذلك هي الآيات التي تتضمن الإعلام في أنه الغائب ليس لها مثال في الشاهد ، فيعبر عنه بالشاهد الذي هو أقرب الموجودات إليها وأكثرها شبها بها ، فيعرض لبعض الناس أن يأخذ الممثل به هو المثال نفسه ، فيلزمه الحيرة والشك ، وهو الذي سمي متشابها في الشرع ، وهذا ليس يعرض للعلماء ولا للجمهور ، وهم صنفا الناس في الحقيقة ، لأن هؤلاء هم الأصحاء ، وأما أولئك فمرضى ، والمرضى [ ص: 71 ] هم الأقل ، ولذلك قال الله تعالى : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ) وهؤلاء أهل الكلام .

وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرا مما ظنوه ليس على ظاهره ، فقالوا : إن هذا التأويل هو المقصود به إنما أتى الله به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده واختبارا لهم ، فنعوذ بالله من هذا الظن بالله ، بل نقول : إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجزا من جهة الوضوح والبيان ، فإذا ما أبعده عن مقصد الشرع من قال فيما ليس بمتشابه : إنه متشابه ، ثم أول ذلك المتشابه بزعمه ، وقال لجميع الناس : إن فرضكم اعتقاد هذا التأويل مثل ما قالوه في آيات الاستواء على العرش وغير ذلك ، مما قالوا إن ظاهره متشابه .

وبالجملة فأكثر التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تؤملت وجدت ليس يقوم عليها برهان ولا يعقل فعل الظاهر في قبول الجمهور لها ، وعملهم بها ، فإن المقصود الأول بالعلم في حق الجمهور إنما هو العمل ، فما كان أنفع في العمل كان أجدر ، وأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهو الأمران جميعا ، أعني العلم والعمل .

مثال من أول شيئا من الشرع وزعم أن الذي أوله هو الذي قصده الشرع وصرح بذلك التأويل للجمهور مثال من أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر ليحفظ صحة جميع الناس أو الأكثر ، فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء المركب الأعظم ، لرداءة مزاج كان به ليس يعرض إلا للأقل من الناس ، فزعم أن بعض الأدوية الذي صرح باسمه الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المنفعة المركب ، لم يرد به ذلك الدواء الذي جرت العادة في اللسان أن يدل ذلك الاسم عليه ، وإنما أراد به دواء آخر مما يمكن أن يدل عليه ذلك باستعارة بعيدة ، فأزال الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم وجعل فيه بدله الدواء الذي ظن أنه قصده الطبيب ، وقال للناس : هذا هو الذي قصده الطبيب الأول فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على الوجه الذي تأوله عليه ذلك المتأول ، ففسدت به أمزجة كثيرة من الناس ، فجاء آخرون فشعروا بإفساد أمزجة الناس من ذلك الدواء المركب فراموا إصلاحه بأن أبدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول ، فعرض للناس نوع من المرض غير النوع الأول ، فجاء ثالث فتأول في أدوية ذلك [ ص: 72 ] المركب غير التأويل الأول والثاني ، فعرض للناس نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين ، فجاء متأول رابع فتأول دواء آخر غير الأدوية المتقدمة فعرض للناس نوع رابع من الأمراض غير الأمراض المتقدمة ، فلما طال الزمان بهذا الدواء المركب الأعظم وسلط الناس التأويل على أدويته وغيرها وبدلوها عرض للناس أمراض شتى حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس .

وهذه هي حال الفرقة الحادثة في الشريعة مع الشريعة ، وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تأويلا غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى ، وزعمت أنه الذي قصده صاحب الشرع ، حتى تمزق الشرع كل ممزق وبعد هذا عن موضوعه الأول . ولما علم صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم أن هذا سيعرض في شريعته قال : " ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة " يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله ، وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض فيها قبل تبينت أن هذا المثال صحيح .

وأول من غير هذا الدواء الأعظم الخوارج ، ثم المعتزلة بعدهم ، ثم الأشعرية ، ثم الصوفية ، ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى ، وذكر كلاما بعد متعلقا يكتب ليس لنا غرض في حكايته . اهـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية