الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    30 - ( فصل )

                    في القضاء بالنكول ورد اليمين وقد اختلفت الآثار في ذلك .

                    فروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سالم بن عبد الله : " أن عبد الله بن عمر باع غلاما له بثمانمائة درهم ، وباعه بالبراءة ، فقال الذي ابتاعه لعبد الله بن عمر : بالغلام داء لم تسمه ؟ فقال عبد الله بن عمر : إني بعته بالبراءة ، فاختصما إلى عثمان بن عفان فقضى على عبد الله بن عمر باليمين ، أن يحلف له : لقد باعه الغلام وما به داء يعلمه ، فأبى عبد الله أن يحلف له ، وارتجع العبد ، فباعه عبد الله بن عمر بألف وخمسمائة درهم " .

                    قال أبو عبيد : وحكم عثمان على ابن عمر في العبد الذي كان باعه بالبراءة . فرده عليه عثمان حين نكل عن اليمين ، ثم لم ينكر ذلك ابن عمر من حكمه ورآه لازما .

                    فهل يوجد إمامان أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمعنى حديثه منهما ؟ فذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأحمد في المشهور من مذهبه .

                    وأما رد اليمين : فقال أبو عبيد : حدثونا عن مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي هند عن الشعبي : " أن المقداد استسلف من عثمان سبعة آلاف درهم . فلما قضاها أتاه بأربعة آلاف ، فقال عثمان : إنها سبعة ، فقال المقداد : ما كانت إلا أربعة ، فما زالا حتى ارتفعا إلى عمر ، فقال المقداد : يا أمير المؤمنين ، ليحلف أنها كما يقول ، وليأخذها . فقال عمر : أنصفك ، احلف أنها كما تقول ، وخذها " .

                    قال أبو عبيد : فهذا عمر قد حكم برد اليمين ، ورأى ذلك المقداد ، ولم ينكره عثمان ، فهؤلاء ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عملوا برد اليمين .

                    وحدثنا يزيد عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن شريح : أنه كان إذا قضى على رجل باليمين ، فردها على الطالب ، فلم يحلف : لم يعطه شيئا ، ولم يستحلف الآخر .

                    وحدثنا عباد بن العوام ، عن الأشعث ، عن الحكم بن عتيبة ، عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود : أن أباه كان إذا قضى على رجل باليمين ، فردها على الذي يدعي ، فأبى أن يحلف : لم يجعل له شيئا ، وقال : لا أعطيك ما لا تحلف عليه .

                    قال أبو عبيد : على أن رد اليمين له أصل في الكتاب والسنة . فالذي في الكتاب : قول الله تعالى : [ ص: 77 ] { اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم } .

                    ثم قال : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان . فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما . وما اعتدينا . إنا إذا لمن الظالمين . ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } .

                    وأما السنة : فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في القسامة بالأيمان على المدعين ، فقال : { تستحقون دم صاحبكم بأن يقسم خمسون : أن يهودا قتلته . فقالوا : كيف نقسم على شيء لم نحضره ؟ قال : فيحلف لكم خمسون من يهود ما قتلوه } .

                    قال : فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الآخرين ، بعد أن حكم بها للأولين . فهذا هو الأصل في رد اليمين . قلت : وهذا مذهب الشافعي ومالك .

                    وصوبه الإمام أحمد . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه : وليس المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم في النكول ورد اليمين بمختلف ، بل هذا له موضع ، وهذا له موضع ، فكل موضع أمكن المدعي معرفته والعلم به فرد المدعى عليه اليمين ، فإنه إن حلف استحق ، وإن لم يحلف لم يحكم له بنكول المدعى عليه . وهذا كحكومة عثمان والمقداد ، فإن المقداد قال لعثمان : " احلف أن الذي دفعته إلي كان سبعة آلاف وخذها " فإن المدعي هنا يمكنه معرفة ذلك والعلم به ، كيف وقد ادعى به ؟ فإذا لم يحلف لم يحكم له إلا ببينة أو إقرار .

                    وأما إذا كان المدعي لا يعلم ذلك ، والمدعى عليه هو المنفرد بمعرفته ، فإنه إذا نكل عن اليمين حكم عليه بالنكول ، ولم ترد على المدعي ، كحكومة عبد الله بن عمر وغريمه في الغلام . فإن عثمان قضى عليه " أن يحلف أنه باع الغلام وما به داء يعلمه " وهذا يمكن أن يعلمه البائع ، فإنه إنما استحلفه على نفي العلم : أنه لا يعلم به داء ، فلما امتنع من هذه اليمين قضى عليه بنكوله .

                    وعلى هذا : إذا وجد بخط أبيه في دفتره : أن له على فلان كذا وكذا ، فادعى به عليه ، فنكل . وسأله إحلاف المدعي : أن أباه أعطاني هذا ، أو أقرضني إياه ، لم ترد عليه اليمين ، فإن حلف المدعى عليه ، وإلا قضي عليه بالنكول ، لأن المدعى عليه يعلم ذلك .

                    وكذلك لو ادعى عليه : أن فلانا أحالني [ ص: 78 ] عليك بمائة ، فأنكر المدعى عليه ونكل عن اليمين ، وقال للمدعي : أنا لا أعلم أن فلانا أحالك " ، ولكن احلف وخذ ، فهاهنا إن لم يحلف لم يحكم له بنكول المدعى عليه . وهذا الذي اختاره شيخنا رحمه الله هو فصل النزاع في النكول ورد اليمين ، وبالله التوفيق .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية