الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 151 ] النوع الثامن والخمسون في بدائع القرآن .

أفرده بالتصنيف ابن أبي الإصبع ، فأورد فيه نحو مائة نوع ، وهي : المجاز ، والاستعارة ، والتشبيه ، والكناية ، والإرداف ، والتمثيل ، والإيجاز ، والاتساع ، والإشارة ، والمساواة ، والبسط ، والإيغال ، والتتميم ، والتكميل والاحتراس ، والاستقصاء ، والتذييل ، والزيادة ، والترديد ، والتكرار ، والتفسير ، والإيضاح ، ونفي الشيء بإيجابه ، والمذهب الكلامي ، والقول بالموجب ، والمناقضة ، والانتقال ، والإسجال ، والتسليم ، والتمكين ، والتوشيح ، والتسهيم ، ورد العجز على الصدر ، وتشابه الأطراف ، ولزوم ما لا يلزم ، والتخيير ، والتسجيع ، والتسريع ، والإبهام - وهو التورية - والاستخدام ، والالتفات ، والاستطراد ، والاطراد ، والانسجام ، والإدماج ، والافتنان ، والاقتدار ، وائتلاف اللفظ مع اللفظ ، وائتلاف اللفظ مع المعنى ، والاستدراك ، والاستثناء ، وتأكيد المدح بما يشبه الذم ، والتخويف ، والتغاير ، والتقسيم ، والتدبيج ، والتنكيت ، والتضمين ، والجناس ، وجمع المؤتلف والمختلف ، وحسن النسق ، وعتاب المرء نفسه ، والعكس ، والعنوان ، والفرائد ، والقسم ، والمبالغة ، والمطابقة ، والمقابلة ، والمواربة ، والمراجعة ، والنزاهة ، والإبداع ، والمقارنة ، وحسن الابتداء ، وحسن الختام ، وحسن التخلص ، والاستطراد .

فأما المجاز وما بعده إلى الإيضاح ، فقد تقدم بعضها في أنواع مفردة ، وبعضها في نوع الإيجاز والإطناب مع أنواع أخر ؛ كالتعريض ، والاحتباك ، والاكتفاء ، والطرد ، والعكس . وأما نفي الشيء بإيجابه : فقد تقدم في النوع الذي قبل هذا .

وأما المذهب الكلامي والخمسة بعده ، فستأتي في نوع الجدل مع أنواع أخر مزيدة .

وأما التمكين والثمانية بعده فستأتي في أنواع الفواصل .

وأما حسن التخلص والاستطراد فسيأتيان في نوع المناسبات .

[ ص: 152 ] وأما حسن الابتداء وبراعة الختام فسيأتيان في نوعي الفواتح والخواتم . وها أنا أورد الباقي مع زوائده ونفائس لا توجد مجموعة في غير هذا الكتاب .

الإيهام .

الإيهام : ويدعى التورية : أن يذكر لفظ له معنيان - إما بالاشتراك ، أو التواطؤ ، أو الحقيقة والمجاز - أحدهما قريب والآخر بعيد ، ويقصد البعيد ، ويورى عنه بالقريب ، فيتوهمه السامع من أول وهلة .

قال الزمخشري : لا ترى بابا في البيان أدق ولا ألطف من التورية ، ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المتشابهات في كلام الله ورسوله .

قال : ومن أمثلتها : الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] ، فإن الاستواء على معنيين : الاستقرار في المكان ؛ وهو المعنى القريب المورى به الذي هو غير مقصود ، لتنزيهه تعالى عنه . والثاني : الاستيلاء والملك ؛ وهو المعنى البعيد المقصود الذي ورى عنه بالقريب المذكور . انتهى .

وهذه التورية تسمى مجردة ؛ لأنها لم يذكر فيها شيء من لوازم المورى به ولا المورى عنه .

ومنها : ما تسمى مرشحة ، وهي التي ذكر فيها شيء من لوازم هذا أو هذا كقوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد [ الذاريات : 47 ] ، فإنه يحتمل الجارحة ؛ وهو المورى به ، وقد ذكر من لوازمه على جهة الترشيح البنيان ، ويحتمل القوة والقدرة ؛ وهو البعيد المقصود .

قال ابن أبي الإصبع في كتابه " الإعجاز " : ومنها : قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ يوسف : 95 ] ، فالضلال يحتمل الحب ، وضد الهدى ، فاستعمل أولاد يعقوب ضد الهدى تورية عن الحب . فاليوم ننجيك ببدنك [ يونس : 92 ] ، على تفسيره بالدرع ، فإن البدن يطلق عليه وعلى الجسد ، والمراد البعيد ؛ وهو الجسد .

قال : ومن ذلك قوله عند ذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى حيث قال : [ ص: 153 ] ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم [ البقرة : 145 ] ، ولما كان الخطاب لموسى من الجانب الغربي ، وتوجهت إليه اليهود ، وتوجهت النصارى إلى المشرق ، كانت قبلة الإسلام وسطا بين القبلتين ، قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا [ البقرة : 143 ] ؛ أي : خيارا ، وظاهر اللفظ يوهم التوسط مع ما يعضده من توسط قبلة المسلمين ، صدق على لفظة ( وسط ) هاهنا أن يسمي تعالى به لاحتمالها المعنيين ، ولما كان المراد أبعدهما - وهو الخيار - صلحت أن تكون من أمثلة التورية .

قلت : وهي مرشحة بلازم المورى عنه ، وهو قوله : لتكونوا شهداء على الناس [ البقرة : 143 ] ، فإنه من لوازم كونهم خيارا ؛ أي : عدولا ، والإتيان قبلها من قسم المجردة . ومن ذلك قوله : والنجم والشجر يسجدان [ الرحمن : 6 ] ، فإن النجم يطلق على الكوكب ، ويرشحه له ذكر الشمس والقمر ، وعلى ما لا ساق له من النبات ، وهو المعنى البعيد له ، وهو المقصود في الآية .

ونقلت من خط شيخ الإسلام ابن حجر أن من التورية في القرآن قوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس [ سبإ : 28 ] ، فإن ( كافة ) بمعنى ( مانع ) ؛ أي : تكفهم عن الكفر والمعصية ، والهاء للمبالغة ، وهو معنى بعيد ، والمعنى القريب المتبادر أن المراد ( جامعة ) بمعنى ( جميعا ) ، لكن منع من حمله على ذلك أن التأكيد يتراخى عن المؤكد ، فكما لا تقول : رأيت جميعا الناس ، لا تقول : رأيت كافة الناس .

الاستخدام : هو والتورية أشرف أنواع البديع ، وهما سيان ، بل فضله بعضهم عليها . ولهم فيه عبارتان :

إحداهما : أن يؤتى بلفظ له معنيان فأكثر مرادا به أحد معانيه ، ثم يؤتى بضميره مرادا به المعنى الآخر . وهذه طريق السكاكي وأتباعه .

والأخرى أن يؤتى بلفظ مشترك ، ثم بلفظين يفهم من أحدهما أحد المعنيين ومن الآخر الآخر ، وهذه طريقة بدر الدين بن مالك في المصباح ، ومشى عليها ابن أبي الإصبع ومثل له بقوله تعالى : لكل أجل كتاب [ الرعد : 38 ] الآية ، فلفظ ( كتاب ) يحتمل الأمد المحتوم ، والكتاب المكتوب ، فلفظ ( أجل ) يخدم المعنى الأول ، و ( يمحو ) يخدم الثاني .

ومثل غيره بقوله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [ النساء : 43 ] ، فالصلاة [ ص: 154 ] تحتمل أن يراد بها فعلها وموضعها ، وقوله : حتى تعلموا ما تقولون [ النساء : 43 ] ، يخدم الأول إلا عابري سبيل [ النساء : 43 ] ، يخدم الثاني .

قيل : ولم يقع في القرآن على طريقة السكاكي .

قلت : وقد استخرجت بفكري آيات على طريقته ، منها : قوله تعالى : أتى أمر الله فأمر الله يراد به قيام الساعة ، والعذاب ، وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد أريد بلفظه الأخير كما أخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : أتى أمر الله قال : محمد : وأعيد الضمير عليه في : تستعجلوه [ النحل : 1 ] ، مرادا به قيام الساعة والعذاب .

ومنها - وهي أظهرها - قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين [ المؤمنون : 12 ] ، فإن المراد به آدم ، ثم أعاد عليه الضمير مرادا به ولده ، ثم قال : ثم جعلناه نطفة في قرار مكين [ المؤمنون : 13 ] .

ومنها : قوله تعالى : لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة : 101 ] ، ثم قال : قد سألها قوم من قبلكم [ المائدة : 102 ] ؛ أي : أشياء أخر; لأن الأولين لم يسألوا عن الأشياء التي سأل عنها الصحابة فنهوا عن سؤالها .

التالي السابق


الخدمات العلمية