الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 5851 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      66- سورة التحريم

                                                                                                                                                                                                                                      مدنية، وآيها اثنتا عشرة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 5852 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [1] يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قال المهايمي: ناداه ليقبل إليه بالكلية، ويدبر عن كل ما سواه من الأزواج وغيرهن. وعبر عنه بالمبهم إشعارا منه بأنه من غاية عظمته، بحيث لا يعلم كنهه. وأتى بلفظ: " النبي " إشعارا بأنه الذي نبئ بأسرار التحليل والتحريم الإلهي. والمراد بتحريمه ما أحل له امتناعه منه، وحظره إياه على نفسه. وهذا المقدار مباح ليس في ارتكابه جناح، وإنما قيل له: لم تحرم ما أحل الله لك رفقا به، وشفقة عليه، وتنويها لقدره ولمنصبه صلى الله عليه وسلم، أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه، جريا على ما ألف من لطف الله تعالى بنبيه، ورفعه عن أن يحرج بسبب أحد من البشر الذين هم أتباعه، ومن أجله خلقوا، ليظهر الله كمال نبوته، بظهور نقصانهم عنه، كما أفاده الناصر.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهان:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: للأثريين في هذا الذي حرمه صلوات الله عليه على نفسه روايات:

                                                                                                                                                                                                                                      فروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب ابنة جحش ، ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها [ ص: 5853 ] فلتقل له: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له فقال: «بل شربت عسلا عند زينب ابنة جحش ، فلن أعود له، وقد حلفت! لا تخبري بذلك أحدا» ، فنزلت الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الشيخان أيضا عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء والعسل، وكان إذا صلى العصر دار على نسائه، فيدنو من كل واحدة منهن، فدخل على حفصة بنت عمر ، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت إليها امرأة من قومها عكة عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: والله لنحتالن له! فذكرت ذلك لسودة ، وقلت لها: إذا دخل عليك، ودنا منك، فقولي له: يا رسول الله! أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا! فقولي له: وما هذه الريح؟ و: «كان صلى الله عليه وسلم يكره أن يوجد منه الريح الكريه» ! فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: أكلت نحله العرفط، حتى صار فيه -أي: في العسل- ذلك الريح الكريه، وإذا دخل علي فسأقول له ذلك، وقولي أنت يا صفية ذلك. فلما دخل على سودة ، قالت له مثل ما علمتها عائشة ، وأجابها بما تقدم. فلما دخل على صفية ، قالت له مثل ذلك، فلما دخل على عائشة قالت له مثل ذلك; فلما كان اليوم الآخر ودخل على حفصة قالت له: يا رسول الله! ألا أسقيك منه؟ قال: «لا حاجة لي به» . قالت: إن سودة تقول: سبحان الله! لقد حرمناه منه، فقلت لها: اسكتي.

                                                                                                                                                                                                                                      و (المغافير) صمغ حلو له رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له: العرفط بضم العين المهملة والفاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة ، وفي سابقتها أنها زينب . والاشتباه في الاسم لا يضر، بعد ثبوت أصل القصة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 5854 ] وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: كانت حفصة وعائشة متحابتين، وكانتا زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبت حفصة إلى أبيها، فتحدثت عنده، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته، فظلت معه في بيت حفصة ، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة ، فرجعت حفصة ، فوجدتها في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها، وغارت غيرة شديدة، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته، ودخلت حفصة ، فقالت: قد رأيت من كان عندك، والله لقد سؤتني! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله لأرضينك، فإني مسر إليك سرا فاحفظيه» ! قالت: ما هو؟ قال: «إني أشهدك أن سريتي هذه علي حرام، رضا لك» - وكانت حفصة وعائشة تظاهران على نساء النبي صلى الله عليه وسلم- فانطلقت عائشة فأسرت إليها أن أبشري؛ إن النبي صلى وسلم قد حرم عليه فتاته. فلما أخبرت بسر النبي صلى الله عليه وسلم، أظهر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله على رسوله لما تظاهرتا عليه: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك الآيات.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي أيضا عن الضحاك قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتاة يغشاها، فبصرت به حفصة ، وكان اليوم يوم عائشة ، وكانتا متظاهرتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتمي علي، ولا تذكري لعائشة ما رأيت» ، فذكرت حفصة لعائشة ، فغضبت عائشة ، فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها أبدا، فأنزل الله هذه الآية، وأمره أن يكفر يمينه ويأتي جاريته.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى النسائي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله هذه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      ولم يرجح ابن جرير أحد السببين المرويين في نزولها على الآخر، بل وقف على إجمال الآية، على عادته في أمثالها، ولذا قال: الصواب أن يقال: كان الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 5855 ] على نفسه شيئا كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته، وجائز أن يكون شرابا من الأشربة، وجائز أن يكون غير ذلك، غير أنه، أي ذلك كان، فإنه كان تحريم شيء كان له حلالا، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه كما كان له قد أحله، وبين له تحلة يمينه. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      والذي يظهر لي هو ترجيح روايات تحريم الجارية في سبب نزولها، وذلك لوجوه:

                                                                                                                                                                                                                                      منها: أن مثله يبتغي به مرضاة الضرات، ويهتم به لهن.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها: أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن، بل فيه أنه حلف لا يشربه أنفة من ريحه، ثم رغب إلى عائشة أن لا تحدث صاحبته به شفقة عليها، إلا أن يكن عاتبنه في ذلك، ولم يحتمل لطف مزاجه الكريم ذلك، فحرمه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن ليس في الرواية ما يشعر به. وما زاد على ذلك فمن اجتهاد الرواة.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها: أن الاهتمام بإنزال سورة على حدة، لتقريع أزواجه صلى الله عليه وسلم وتأديبهن في المظاهرة عليه، وإيعادهن على الإصرار على ذلك، بالاستدلال بهن، وإعلامهن برفعة مقامه، وأن ظهراءه مولاه وجبريل والملائكة والمؤمنون، كل ذلك يدل على أن أمرا عظيما دفعهن إلى تحريمه ما حرم وما هو إلا الغيرة من مثل ما روي في شأن الجارية؛ فإن الأزواج يحرصن أشد الحرص على ما يقطع وصلة الضرة الضعيفة ويبترها من عضو الزوجية. هذا ما ظهر لي الآن.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما تخريج رواية العسل في هذه الآية، وقول بعض السلف نزلت فيه، فالمراد منه أن الآية تشمل قصته بعمومها، على ما عرف من عادة السلف في قولهم: نزلت في كذا، كما نبهنا عليه مرارا. وكأنه عليه السلام كان حرم ذلك الشراب، ثم أخبر الرواة بأن مثله فرضت فيه التحلة، فلا مانع من العود إلى شربه، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: في "الإكليل": استدل بها على أن من حرم على نفسه أمة أو طعاما أو زوجة، لم تحرم عليه، وتلزمه كفارة يمين.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 5856 ] وروى البخاري عن ابن عباس قال: في الحرام يكفر; لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب ابن جرير إلى أنه كان مع التحريم يمين، ورد كون التحريم بمجرده يمينا، وفيه نظر؛ لأن اليمين في عرفهم أعم من القسم بالله، كما ذهب إليه ابن عباس والحسن وقتادة وابن جبير وغيرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال قتادة : إن النبي صلى الله علبيه وسلم حرمها، يعني جاريته، فكانت يمينا -رواه ابن جرير - وسيأتي ما يؤيده. وقوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية