الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

فصل

المعاصي تلقي الرعب والخوف في القلوب

ومن عقوباتها ما يلقيه الله سبحانه وتعالى من الرعب والخوف في قلب العاصي ، فلا تراه إلا خائفا مرعوبا .

فإن الطاعة حصن الله الأعظم ، من دخله كان من الآمنين من عقوبات الدنيا والآخرة ، ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب ، فمن أطاع الله انقلبت المخاوف في حقه أمانا ، ومن عصاه انقلبت مآمنه مخاوف ، فلا تجد العاصي إلا وقلبه كأنه بين جناحي طائر ، إن حركت الريح الباب قال : جاء الطلب ، وإن سمع وقع قدم خاف أن يكون نذيرا بالعطب ، يحسب أن كل صيحة عليه ، وكل مكروه قاصد إليه ، فمن خاف الله آمنه من كل شيء ، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء :


بذا قضى الله بين الخلق مذ خلقوا أن المخاوف والأجرام في قرن



المعاصي توقع في الوحشة

ومن عقوباتها أنها توقع الوحشة العظيمة في القلب فيجد المذنب نفسه مستوحشا ، قد وقعت الوحشة بينه وبين ربه ، وبين الخلق وبين نفسه ، وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة ، وأمر العيش عيش المستوحشين الخائفين ، وأطيب العيش عيش المستأنسين ، فلو نظر العاقل ووازن لذة المعصية وما توقعه من الخوف والوحشة ، لعلم سوء حاله ، وعظيم غبنه ، إذ باع أنس الطاعة وأمنها وحلاوتها بوحشة المعصية وما توجبه من الخوف والضرر الداعي له .

كما قيل :


فإن كنت قد أوحشتك الذنوب     فدعها إذا شئت واستأنس



[ ص: 76 ] وسر المسألة : أن الطاعة توجب القرب من الرب سبحانه ، فكلما اشتد القرب قوي الأنس ، والمعصية توجب البعد من الرب ، وكلما زاد البعد قويت الوحشة .

ولهذا يجد العبد وحشة بينه وبين عدوه للبعد الذي بينهما ، وإن كان ملابسا له ، قريبا منه ، ويجد أنسا قويا بينه وبين من يحب ، وإن كان بعيدا عنه .

والوحشة سببها الحجاب ، وكلما غلظ الحجاب زادت الوحشة ، فالغفلة توجب الوحشة ، وأشد منها وحشة المعصية ، وأشد منها وحشة الشرك والكفر ، ولا تجد أحدا ملابسا شيئا من ذلك إلا ويعلوه من الوحشة بحسب ما لابسه منه ، فتعلو الوحشة وجهه وقلبه فيستوحش ويستوحش منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية