الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

( ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عند العقبة في الموسم ستة نفر من الأنصار كلهم من الخزرج ، وهم : أبو أمامة أسعد بن زرارة ، وعوف بن الحارث ، ورافع بن مالك ، وقطبة بن عامر ، وعقبة بن عامر ، وجابر بن عبد الله بن رئاب ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلموا ) .

ثم رجعوا إلى المدينة ، فدعوهم إلى الإسلام ، ففشا الإسلام فيها حتى لم يبق دار إلا وقد دخلها الإسلام ، فلما كان العام المقبل ، جاء منهم اثنا عشر رجلا ، الستة الأول خلا جابر بن عبد الله ، ومعهم معاذ بن الحارث بن رفاعة أخو عوف المتقدم ، وذكوان بن عبد القيس ، وقد أقام ذكوان بمكة حتى هاجر إلى المدينة ، فيقال : إنه مهاجري أنصاري ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة ، وأبو [ ص: 41 ] الهيثم بن التيهان ، وعويمر بن مالك هم اثنا عشر .

وقال أبو الزبير : عن جابر ( إن النبي صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسم ، ومجنة ، وعكاظ ، يقول : من يؤويني ؟ من ينصرني ؟ حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة ، فلا يجد أحدا ينصره ولا يؤويه ، حتى إن الرجل ليرحل من مضر أو اليمن إلى ذي رحمه ، فيأتيه قومه فيقولون له : احذر غلام قريش لا يفتنك ، ويمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله عز وجل ، وهم يشيرون إليه بالأصابع ، حتى بعثنا الله من يثرب ، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن ، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه ، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام ، وبعثنا الله إليه ، فائتمرنا واجتمعنا وقلنا : حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف ، فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم ، فواعدنا بيعة العقبة ، فقال له عمه العباس : يا ابن أخي ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك ، إني ذو معرفة بأهل يثرب ، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين ، فلما نظر العباس في وجوهنا قال : هؤلاء قوم لا نعرفهم ، هؤلاء أحداث ، فقلنا : يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال : " تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم ، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم ، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ، ولكم الجنة ، فقمنا نبايعه ، فأخذ بيده أسعد بن زرارة ، وهو أصغر السبعين فقال : رويدا يا أهل يثرب ، إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة ، وقتل خياركم ، وأن تعضكم السيوف ، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه ، وأجركم على الله ، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه ، فهو أعذر لكم عند الله ، فقالوا : يا أسعد أمط عنا يدك ، فوالله لا نذر هذه البيعة ، ولا نستقيلها ، فقمنا إليه رجلا رجلا ، [ ص: 42 ] فأخذ علينا وشرط ، يعطينا بذلك الجنة ) .

ثم انصرفوا إلى المدينة ، وبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم ، ومصعب بن عمير يعلمان من أسلم منهم القرآن ، ويدعوان إلى الله عز وجل ، فنزلا على أبي أمامة أسعد بن زرارة ، وكان مصعب بن عمير يؤمهم ، ( وجمع بهم لما بلغوا أربعين ) ، فأسلم على يديهما بشر كثير ، منهم : أسيد بن الحضير ، وسعد بن معاذ ، وأسلم بإسلامهما يومئذ جميع بني عبد الأشهل الرجال والنساء ، إلا أصيرم عمرو بن ثابت بن وقش فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد ، وأسلم حينئذ وقاتل فقتل قبل أن يسجد لله سجدة ، فأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( عمل قليلا وأجر كثيرا ) .

[ ص: 43 ] وكثر الإسلام بالمدينة وظهر ، ثم رجع مصعب إلى مكة ، ووافى الموسم ذلك العام خلق كثير من الأنصار من المسلمين والمشركين ، وزعيم القوم البراء بن معرور ، فلما كانت ليلة العقبة الثلث الأول من الليل تسلل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم خفية من قومهم ومن كفار مكة ، على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأزرهم ، فكان أول من بايعه ليلتئذ البراء بن معرور ، وكانت له اليد البيضاء ، إذ أكد العقد وبادر إليه ، وحضر العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكدا لبيعته كما تقدم ، وكان إذ ذاك على دين قومه ، واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم تلك الليلة اثني عشر نقيبا ، وهم : أسعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع ، وعبد الله بن رواحة ، ورافع بن مالك ، والبراء بن معرور ، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر ، وكان إسلامه تلك الليلة ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، وعبادة بن الصامت ، فهؤلاء تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس : أسيد بن الحضير ، وسعد بن خيثمة ، ورفاعة بن عبد المنذر . وقيل : بل أبو الهيثم بن التيهان مكانه .

وأما المرأتان : فأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو ، وهي التي قتل مسيلمة ابنها حبيب بن زيد ، وأسماء بنت عمرو بن عدي .

فلما تمت هذه البيعة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يميلوا على أهل العقبة بأسيافهم ، فلم يأذن لهم في ذلك ، وصرخ الشيطان على العقبة بأنفذ صوت سمع : يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على [ ص: 44 ] حربكم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هذا أزب العقبة ، هذا ابن أزيب ، أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك ) .

ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم ، فلما أصبح القوم غدت عليهم جلة قريش وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار ، فقالوا : يا معشر الخزرج ، إنه بلغنا أنكم لقيتم صاحبنا البارحة وواعدتموه أن تبايعوه على حربنا ، وايم الله ، ما حي من العرب أبغض إلينا من أن ينشب بيننا وبينه الحرب منكم ، فانبعث من كان هناك من الخزرج من المشركين ، يحلفون لهم بالله : ما كان هذا وما علمنا ، وجعل عبد الله بن أبي بن سلول يقول : هذا باطل ، وما كان هذا ، وما كان قومي ليفتاتوا علي مثل هذا ، لو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني ، فرجعت قريش من عندهم ، ورحل البراء بن معرور ، فتقدم إلى بطن يأجج ، وتلاحق أصحابه من المسلمين ، وتطلبتهم قريش ، فأدركوا سعد بن عبادة ، فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله ، وجعلوا يضربونه ويجرونه ويجذبونه بجمته حتى أدخلوه مكة ، فجاء مطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية فخلصاه من أيديهم ، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه ، فإذا سعد قد طلع عليهم ، فوصل القوم جميعا إلى المدينة .

فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة ، فبادر الناس إلى ذلك ، فكان أول من خرج إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد ، وامرأته أم [ ص: 45 ] سلمة ، ولكنها احتبست دونه ومنعت من اللحاق به سنة ، وحيل بينها وبين ولدها سلمة ، ثم خرجت بعد السنة بولدها إلى المدينة ، وشيعها عثمان بن أبي طلحة .

ثم خرج الناس أرسالا يتبع بعضهم بعضا ، ولم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي ، أقاما بأمره لهما ، وإلا من احتبسه المشركون كرها ، وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج ، وأعد أبو بكر جهازه .

التالي السابق


الخدمات العلمية