الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 209 ] بسم الله الرحمن الرحيم كتاب اللقيط .

( قال ) الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رضي الله عنه

: اللقيط لغة اسم لشيء موجود ، فعيل بمعنى مفعول كالقتيل والجريح بمعنى المقتول والمجروح . وفي الشريعة اسم لحي مولود طرحه أهله خوفا من العيلة أو فرارا من تهمة الريبة ، مضيعه آثم ، ومحرزه غانم لما في إحرازه من إحياء النفس فإنه على شرف الهلاك ، وإحياء الحي بدفع سبب الهلاك عنه

قال تعالى { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } ، ولهذا كان رفعه أفضل من تركه لما في تركه من ترك الترحم على الصغار قال صلى الله عليه وسلم { : من لم يرحم صغيرا ، ولم يوقر كبيرا فليس منا } ، وفي رفعه إظهار الشفقة ، وهو أفضل الأعمال بعد الإيمان على ما قيل أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله ، وقد دل على ما قلنا الحديث الذي بدأ به الكتاب . ورواه عن الحسن البصري أن رجلا التقط لقيطا فأتى به عليا رضي الله تعالى عنه فقال هو حر ، ولأن أكون وليت من أمره مثل الذي وليت منه أحب إلي من كذا وكذا فقد استحب علي رضي الله تعالى عنه مع جلالة قدره أن يكون هو الملتقط له فدل على أن رفعه أفضل من تركه .

( فإن قيل ) : ما معنى هذا الكلام ، وكان متمكنا من أخذه بولاية الإمامة ؟ ( قلنا ) : نعم ، ولكن إحياؤه كان في التقاطه حين كان على شرف الهلاك ، ولا يحصل ذلك بالأخذ منه بعدما ظهر له حافظ ومتعهد فلهذا استحب ذلك مع أنه لا ينبغي للإمام أن يأخذه من الملتقط إلا بسبب يوجب ذلك لأن يده سبقت إليه فهو أحق به باعتبار يده ، وفي هذا الحديث دليل على أن اللقيط حر ، وهو المذهب أنه حر مسلم إما باعتبار الدار لأن الدار حرية ، وإسلام فمن كان فيها فهو حر مسلم باعتبار الظاهر أو باعتبار الغلبة لأن الغالب فيمن يسكن دار الإسلام الأحرار المسلمون ، والحكم للغالب أو باعتبار الأصل فالناس أولاد آدم ، وحواء عليهما السلام ، وكانا حرين [ ص: 210 ] فلهذا كان اللقيط حرا ، وفي حديث آخر أن عليا رضي الله عنه فرض له ، وهذا يدل على أن نفقة اللقيط في بيت المال لأنه عاجز عن الكسب محتاج إلى النفقة ، ومال بيت المال معد للصرف إلى المحتاجين ، وفي حديث آخر أن عليا رضي الله عنه قال : ولاؤه وعقله للمسلمين ، وهو المذهب أن عقل جنايته على بيت المال لأنه لو مات وترك مالا كان ماله مصروفا إلى بيت المال ميراثا للمسلمين فكذلك عقل جنايته ، ونفقته على بيت المال لأن الغنم مقابل بالغرم ، وهو مروي عن عمر رضي الله عنه أيضا ، قال : اللقيط حر ، وولاؤه ، وعقله للمسلمين ، وذكر في حديث الزهري رضي الله عنه عن سنين أبي جميلة قال : وجدت منبوذا على بابي فأتيت به عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : عسى الغوير أبؤسا هو حر ، ونفقته علينا ، ومعنى المنبوذ المطروح قال تعالى { فنبذوه وراء ظهورهم } ، وهو الاسم الحقيقي للموجود لأنه مطروح ، وإنما سمي لقيطا باعتبار مآله ، وتفاؤلا لاستصلاح حاله فأما معنى قول عمر رضي الله عنه عسى الغوير أبؤسا مثل معروف لما يكون باطنه بخلاف ظاهره ، وأول من تكلم به الزباء الملكة حين رأت الصناديق فيها الرجال ، وقد أخبرت أن فيها الأموال فلما أحست بذلك أنشأت تقول

ما للجمال مشيها وئيدا أجندلا يحملن أم حديدا     أم صرفانا باردا شديدا
أم الرجال جثما قعودا

. ثم قالت عسى الغوير أبؤسا فطار كلامها مثلا ، وكان عمر رضي الله عنه ظن أن هذا الرجل جاء إليه بولده يزعم أنه لقيط ليستوفي منه نفقته فلهذا ذكر هذا المثل ، وفي الحديث دليل أن الملتقط ينبغي له أن يأتي باللقيط إلى الإمام ، وينبغي للإمام أن يعطي نفقته من بيت المال ، وأنه يكون حرا كما قال عمر رضي الله عنه نفقته علينا ، وهو حر ، وإن أنفق عليه الملتقط فهو في نفقته متطوع لا يرجع بها على اللقيط إذا كبر لأنه غير مجبور على ما صنع شرعا ، والمتطوع من يكون مخيرا غير مجبر على إيجاد شيء شرعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية