الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              [ ص: 67 ] سورة الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم (1) الحمد لله رب العالمين (2) الرحمن الرحيم (3) مالك يوم الدين (4) إياك نعبد وإياك نستعين (5) اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)

                                                                                                                                                                                              [قال البخاري ] : حدثنا عبد الله بن يوسف: ثنا مالك ، عن أبي الزناد . عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال أحدكم: آمين وقالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه " .

                                                                                                                                                                                              وخرج مسلم من رواية أبي يونس، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين، والملائكة في السماء: آمين، فوافق إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه " .

                                                                                                                                                                                              ومن رواية سهيل ، عن أبيه، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال القارئ: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال من خلفه: آمين . فوافق قوله قول أهل السماء، غفر له ما تقدم من ذنبه " .

                                                                                                                                                                                              [ ص: 68 ] وروى إسحاق بن راهويه : حدثنا جرير : ثنا ليث ، عن كعب ، عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال: آمين، فوافق آمين أهل الأرض أمين أهل السماء، غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه . ومثل من لا يقول: آمين كمثل رجل غزا مع قوم فاقترعوا، فخرجت سهامهم ولم يخرج سهمه، فقال: لم لم يخرج سهمي; فقيل: إنك لم تقل آمين " . .

                                                                                                                                                                                              قال أبو هريرة : وكان الإمام إذا قال; (ولا الضالين) جهر بـ آمين .

                                                                                                                                                                                              كعب هذا، قال أحمد : لا أدري من هو . وقال أبو حاتم : مجهول لا يعرف .

                                                                                                                                                                                              وقد ذكرنا - فيما تقدم - أن الحديث على ظاهره، وأن الملائكة في السماء تؤمن على قراءة المصلين في الأرض للفاتحة .

                                                                                                                                                                                              وفي "صحيح مسلم " من رواية العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين قال: مجدني عبدي - وقال مرة: فوض إلي عبدي فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل: فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " . فهذا الحديث يدل على أن الله يستمع لقراءة المصلي حيث كان مناجيا له، [ ص: 69 ] ويرد عليه جواب ما يناجيه به كلمة كلمة، فأول الفاتحة حمد، ثم ثناء، وهو تثنية الحمد وتكريره، ثم تمجيد، والثناء على الله بأوصاف المجد . والكبرياء والعظمة، ثم ينتقل العبد من الحمد والثناء والتمجيد إلى خطاب الحضور . كأنه صلح حينئذ للتقريب من الحضرة فخاطب خطاب الحاضرين، فقال: إياك نعبد وإياك نستعين وهذه الكلمة قد قيل: إنها تجمع سر الكتب المنزلة من السماء كلها" لأن الخلق إنما خلقوا ليؤمروا بالعبادة، كما قال: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وإنما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب لذلك، فالعبادة حق الله على عباده، ولا قدرة للعباد عليها بدون إعانة الله لهم، فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عبده، لأن العبادة حق الله على عبده . والإعانة من الله فضل من الله على عبده . وبعد ذلك الدعاء بهداية الصراط المستقيم; صراط المنعم عليهم، وهم الأنبياء وأتباعهم من الصديقين والشهداء والصالحين، كما ذكر ذلك في سورة النساء . فمن استقام على هذا الصراط حصل له سعادة الدنيا والآخرة، واستقام سيره على الصراط يوم القيامة، ومن خرج عنه فهو إما مغضوب عليه، وهو من يعرف طريق الهدى ولا يتبعه كاليهود، أو ضال عن طريق الهدى كالنصارى ونحوهم من المشركين . فإذا ختم القارئ في الصلاة قراءة الفاتحة، أجاب الله دعاءه فقال: "هذا لعبدي ولعبدي ما سأل "، وحينئذ تؤمن الملائكة على دعاء المصلي، فيشرع [ ص: 70 ] للمصلين موافقتهم في التأمين معهم، فالتأمين مما يستجاب به الدعاء .

                                                                                                                                                                                              وفي "صحيح مسلم " عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين، يجبكم الله " . ولما كان المأموم مأمورا بالإنصات لقراءة الإمام، مأمورا بالتأمين على دعائه عند فراغ الفاتحة، لم يكن عليه قراءة; لأنه قد أنصت للقراءة، وأمن على الدعاء فكأنه دعا; كما قال كثير من السلف في قول الله تعالى لموسى وهارون: قد أجيبت دعوتكما قالوا: كان موسى يدعو، وهارون يؤمن، فسماهما داعيين .

                                                                                                                                                                                              * * *

                                                                                                                                                                                              وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت، فاستعن بالله "، هذا منتزع من قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين فإن السؤال لله هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة، كذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث النعمان بن بشير ، وتلا قوله تعالى: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه .

                                                                                                                                                                                              وخرج الترمذي من حديث أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الدعاء مخ العبادة"، فتضمن هذا الكلام أن يسأل الله عز وجل، ولا يسأل غيره، وأن [ ص: 71 ] يستعان بالله دون غيره . فأما السؤال، فقد أمر الله بمسألته، فقال: واسألوا الله من فضله وفي الترمذي عن ابن مسعود مرفوعا: "سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل " . وفيه - أيضا - عن أبي هريرة مرفوعا: "من لم يسأل الله يغضب عليه " . وفي حديث آخر: "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع " .

                                                                                                                                                                                              وفي النهي عن مسألة المخلوقين أحاديث كثيرة صحيحة، وقد بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئا: منهم أبو بكر الصديق ، وأبو ذر ، وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته، فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه) .

                                                                                                                                                                                              وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إن بني فلان أغاروا علي فذهبوا بابني وإبلي، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن آل محمد كذا وكذا أهل بيت ما لهم مد من طعام أو صاع، فاسأل الله عز وجل "، فرجع إلى امرأته، فقالت: ما قال لك; فأخبرها، فقالت: نعم ما رد عليك، فما لبث أن رد الله عليه ابنه وإبله أوفر ما كانت، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، [ ص: 72 ] وأمر الناس بمسألة الله عز وجل والرغبة إليه، وقرأ: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب

                                                                                                                                                                                              وقد ثبت في "الصحيحين " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: هل من داع، فأستجيب له; هل من سائل فأعطيه; هل من مستغفر فأغفر له؟ " .

                                                                                                                                                                                              وخرج المحاملي وغيره من حديث أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "قال الله تعالى: من ذا الذي دعاني فلم أجبه؟ وسألني فلم أعطه; واستغفرني، فلم أغفر له، وأنا أرحم الراحمين؟ " .

                                                                                                                                                                                              واعلم، أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعين، لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضر، ونيل المطلوب، وجلب النافع ودرء المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده، لأنه حقيقة العبادة .

                                                                                                                                                                                              وكان الإمام أحمد يدعو ويقول: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك . ولا يقدر على كشف الضر وجلب النفع سواه، كما قال: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله وقال: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده

                                                                                                                                                                                              والله سبحانه يحب أن يسأل ويرغب إليه في الحوائج، ويلح في سؤاله ودعائه، ويغضب على من لا يسأله، ويستدعي من عباده سؤاله، وهو قادر على إعطاء خلقه كلهم سؤلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء، والمخلوق بخلاف ذلك كله: يكره أن يسأل، ويحب أن لا يسأل، لعجزه وفقره وحاجته . ولهذا قال وهب بن منبه لرجل كان يأتي الملوك: ويحك، تأتي من يغلق عنك بابه، ويظهر لك فقره، ويواري عنك غناه، وتدع من يفتح لك بابه بنصف الليل ونصف النهار، ويظهر لك غناه، ويقول: ادعني أستجب لك؟! .

                                                                                                                                                                                              وقال طاووس لعطاء : إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه ويجعل دونها حجابه، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تسأله ووعدك أن يجيبك .

                                                                                                                                                                                              وأما الاستعانة بالله عز وجل دون غيره من الخلق، فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه، ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه . ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله، فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول، وهذا تحقيق معنى قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله "، فإن المعنى لا تحول للعبد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بالله، وهذه كلمة عظيمة وهي كنز من كنوز الجنة، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه . وفي [ ص: 74 ] الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" .

                                                                                                                                                                                              ومن ترك الاستعانة بالله، واستعان بغيره، وكله الله إلى من استعان به فصار مخذولا . كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز : لا تستعن بغير الله فيكلك الله إليه . ومن كلام بعض السلف: يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك، عجبت لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك .

                                                                                                                                                                                              * * *

                                                                                                                                                                                              خرج الإمام أحمد والنسائي ، والترمذي من حديث النواس بن سمعان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع، يقول: أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه . والصراط: الإسلام . والسوران: حدود الله . والأبواب المفتحة: محارم الله . وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله - عز وجل - والداعي من فوق: واعظ الله في قلب كل مسلم " وهذا لفظ الإمام أحمد . وعند الترمذي زيادة: "والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط " [ ص: 75 ] مستقيم

                                                                                                                                                                                              وحسنه الترمذي ، وخرجه الحاكم ، وقال: صحيح على شرط مسلم ، لا أعلم له علة .

                                                                                                                                                                                              ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث العظيم - الذي حكاه عن ربه - عز وجل - مثل الإسلام: بالصراط المستقيم . وقد سمى الله دينه الذي هو دين الإسلام صراطا مستقيما في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7) . وقد فسر الصراط هنا: بكتاب الله . وكتاب الله فيه شرح دين الإسلام . وبيانه وتفصيله والدعوة إليه .

                                                                                                                                                                                              وعن جابر ، قال: الصراط المستقيم: هو الإسلام، وهو أوسع مما بين السماء والأرض . وقال تعالى: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16) . وقال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله

                                                                                                                                                                                              وخرج الإمام أحمد والنسائي في "تفسيره، والحاكم من حديث ابن ، [ ص: 76 ] مسعود ، قال: خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا بيده ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيما" وخط عن يمينه وشماله، ثم قال: "هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه " ثم قرأ: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله

                                                                                                                                                                                              وخرج الإمام أحمد ، وابن ماجه ، من حديث مجاهد ، عن الشعبي . عن جابر ، قال: كنا جلوسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخط خطا هكذا أمامهم، قال: "هذا سبيل الله " وخطين عن يمينه، وخطين عن شماله، وقال: "هذه سبيل الشيطان " ثم وضع يده في الخط الأوسط، ثم تلا هذه الآية: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الآية .

                                                                                                                                                                                              وقد روي عن ابن مسعود ، أنه سئل عن الصراط المستقيم فقال: تركنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في أدناه وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد وعن شماله جواد . وثم رجال يدعون من مر بهم . فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة . ثم قرأ ابن مسعود : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه خرجه ابن جرير وغيره .

                                                                                                                                                                                              وإنما سمي الصراط صراطا: لأنه طريق واسع سهل، يوصل إلى المقصود . وهذا مثل دين الإسلام في سائر الأديان، فإنه يوصل إلى الله وإلى داره، وجواره، مع سهولته وسعته . وبقية الطرق وإن كانت كثيرة، فإنها كلها مع ضيقها وعسرها لا توصل [ ص: 77 ] إلى الله، بل تقطع عنه وتوصل إلى دار سخطه وغضبه، ومجاورة أعدائه " ولهذا قال تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85) . وقال تعالى: إن الدين عند الله الإسلام

                                                                                                                                                                                              والإسلام العام: هو دين الله الذي كان عليه جميع الرسل، كما قال نوح: وأمرت أن أكون من المسلمين وقال تعالى:، ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وقال تعالى: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132) . وقال عن يوسف إنه قال: فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين (101) . وقال تعالى عن ملكة سبأ: وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين (44) . وقال عن الحواريين: إنهم قالوا: آمنا واشهد بأننا مسلمون وقد وصف الله في سورة الفاتحة الصراط بأنه: صراط الذين أنعمت عليهم ثم سمى الذين أنعم عليهم في سورة النساء، وجعلهم أربعة أصناف: النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . فدل على أن هؤلاء كلهم على هذا الصراط المستقيم، فلا يخرج عنهم إلا: إما مغضوب عليه، وهو من عرف الصراط وسلك غيره عمدا كاليهود والمشركين . وإما ضال جاهل يسلك غير الصراط جهلا، ويظن أنه الصراط .

                                                                                                                                                                                              وحقيقة الإسلام: الاستسلام لله تعالى والانقياد لطاعته . وأما الإسلام [ ص: 78 ] الخاص، فهو دين محمد - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                              ومنذ بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل من أحد دينا غير دينه . وهو الإسلام الخاص وجعل بقية الأديان كفرا، لما تضمن اتباعها من الكفر بدين محمد والمعصية لله في الأمر باتباعه، فإنه ليس هناك إلا أحد أمرين: إما الاستسلام لله والانقياد لطاعته وأوامره، وهو دين الإسلام الذي أمر الله تعالى به . وإما المعصية لله والمخالفة لأوامره، وذلك يستلزم طاعة الشيطان " لأن الشيطان يأمر بسلوك الطرق التي عن يمين الصراط وشماله، ويصد عن سلوك الصراط المستقيم، كما قال تعالى: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61) . قال تعالى حاكيا عن الشيطان: قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين (18) . وقال تعالى: قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان

                                                                                                                                                                                              وصح عن ابن مسعود ، أنه قال: إن هذا الصراط محتضر، تحضره الشياطين . يا عبد الله ، هذا الطريق، هلم إلى الطريق، فاعتصموا بحبل الله، فإن [ ص: 79 ] حبل الله هو القرآن، وهذا كما أن الكتب المنزلة، والرسل المرسلة وأتباعهم يدعون إلى اتباع الصراط المستقيم، فالشيطان وأعوانه وأتباعه من الجن والإنس يدعون إلى بقية الطرق الخارجة عن الصراط المستقيم، كما قال تعالى: كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين (71) .

                                                                                                                                                                                              والإسلام له: هو الاستسلام، والإذعان، والانقياد، والطاعة . والإسلام قد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل بالشهادتين، مع إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، والصيام .

                                                                                                                                                                                              وأخبر - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر: أن الإسلام بني على هذه الخمس: يعني: أنه أركان بنائه التي لا يقوم البناء إلا عليها، وبقية الأعمال داخلة في مسماه أيضا .

                                                                                                                                                                                              وروي من حديث أبي الدرداء مرفوعا ومن حديث حذيفة مرفوعا وموقوفا، وعد من سهامه الجهاد .

                                                                                                                                                                                              وأفضل الإسلام: أن يسلم المسلمون من لسانه ويده، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه . [ ص: 80 ] وفي "صحيح مسلم " عن عبد الله بن سلام ، قال: بينما أنا نائم إذ أتاني رجل فقال لي قم فأخذ بيدي فانطلقت معه قال فإذا أنا بجواد عن شمالي قال فأخذت لآخذ فيها فقال لي لا تأخذ فيها فإنها طرق أصحاب الشمال قال فإذا جواد منهج على يميني فقال لي خذ هاهنا فأتى بي جبلا فقال لي اصعد قال فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت على استي قال حتى فعلت ذلك مرارا قال ثم انطلق بي حتى أتى بي عمودا رأسه في السماء وأسفله في الأرض في أعلاه حلقة فقال لي اصعد فوق هذا قال قلت كيف أصعد هذا ورأسه في السماء قال فأخذ بيدي فزجل بي قال فإذا أنا متعلق بالحلقة قال ثم ضرب العمود فخر قال وبقيت متعلقا بالحلقة حتى أصبحت قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه فقال أما الطرق التي رأيت عن يسارك فهي طرق أصحاب الشمال قال وأما الطرق التي رأيت عن يمينك فهي طرق أصحاب اليمين وأما الجبل فهو منزل الشهداء ولن تناله وأما العمود فهو عمود الإسلام وأما العروة فهي عروة الإسلام ولن تزال متمسكا بها حتى تموت" . وقال تعالى: وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين

                                                                                                                                                                                              فأخبر أن قصد السبيل - وهو الطريق القاصد - عليه، يعني: أنه يوصل إليه، وأن من السبيل ما هو جائر عن القصد غير موصل . فالسبيل القاصد: هو الصراط المستقيم . والسبيل الجائر: هو سبيل الشيطان الرجيم . وقد وحد طريقه في أكثر المواضع، وجمع طرق الضلال; [ ص: 81 ] لأن طريق الحق أصله شيء واحد، ودين الإسلام العام كما سبق وهو توحيد الله وطاعته، وطرق الضلالة كثيرة متبوعة، وإن جمعها الشرك والمعصية . قوله: "وعلى جنبتي الصراط سوران " ثم فسرها بحدود الله . والمراد: أن الله تعالى حد حدودا، ونهى عن تعديها، فمن تعداها فقد ظلم نفسه وخرج عن الصراط المستقيم الذي أمر بالثبوت عليه .

                                                                                                                                                                                              ولما كان السور يمنع من وراءه من تعديه ومجاوزته: سمى حدود الله سورا; لأنه يمنع من دخله من مجاوزته وتعدي حدوده . قال الله تعالى: تلك حدود الله فلا تعتدوها وقال: تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار إلى قوله: ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين وقال: تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون وقال: وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه

                                                                                                                                                                                              وفي حديث أبي ثعلبة الخشني ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها" . فحدود الله تطلق ويراد بها غالبا: ما أذن فيه وأباح فمن تعدى هذه الحدود فقد خرج مما أحله الله إلى ما حرمه; فلهذا نهي عن تعدي حدود الله، لأن تعديها بهذا المعنى محرم . ويراد بها تارة ما حرمه الله ونهى عنه . [ ص: 82 ] وبهذا المعنى، يقال: لا تقربوا حدود الله; كما قال تعالى: تلك حدود الله فلا تقربوها بعد أن نهى عن ارتكاب المفطرات في نهار الصيام، وعن مباشرة النساء في الاعتكاف في المساجد . فأراد بحدوده هاهنا: ما نهى عنه; فلذلك نهى عن قربانه . فإنه تعالى جعل لكل شيء حدا، فجعل للمباح حدا، وللحرام حدا، وأمر بالاقتصار على حد المباح وأن لا يتعدى . ونهى عن قربان حد الحرام . ومما سمي فيه المحرمات حدودا: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها كمثل قوم استهموا سفينة" الحديث المعروف . والمراد بالقائم على حدود الله: المنكر للمحرمات والناهي عنها . وفي حديث ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا آخذ بحجزكم اتقوا النار اتقوا الحدود" قالها ثلاثا" . خرجه الطبراني والبزار . ومراده بالحدود: محارم الله ومعاصيه، وقد تطلق الحدود باعتبار العقوبات المقدرة الرادعة عن الجرائم المغلظة . فيقال: حد الزنا، حد السرقة، حد شرب الخمر، وهو هذا المعروف من اسم الحدود في اصطلاح الفقهاء، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسامة: "أتشفع في حد من حدود الله؟ " لما شفع في المرأة التي سرقت . وفي حديث: "أقيموا الحدود في الحضر والسفر على القريب والبعيد" . [ ص: 83 ] وقال علي: أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم . وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي بردة : "لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله عز وجل " . فقد اختلفوا في المراد بالحد هنا: هل هو الحدود المقدرة شرعا، أم المراد بالحد ما حده الله ونهى عن قربانه، فيدخل فيه سائر المعاصي، ويكون المراد: النهي عن تجاوز العشر جلدات بالتأديب ونحوه، مما ليس عقوبة على محرم . هذا فيه اختلاف مشهور بين العلماء . وقال تعالى: وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون وقال تعالى: الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنـزل الله على رسوله والمراد بحدود الله هاهنا: ما يفصل بين الحلال والحرام، ويتميز به أحدهما من الآخر . وقد مدح الله الحافظين لحدوده في قوله: والحافظون لحدود الله

                                                                                                                                                                                              وفي الحديث المرفوع من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده: "يمثل القرآن رجلا يوم القيامة فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره ونهيه، فيمثل له خصما فيقول: يا رب حملته إياي فبئس حامل . تعدى حدودي وضيع فرائضي وركب . [ ص: 84 ] معصيتي وقال: ويؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله، فيمثل خصما دونه، فيقول: يا رب حملته إياي فخير حامل حفظ حدودي وعمل بفرائضي واجتنب معصيتي " .

                                                                                                                                                                                              والمراد بحفظ الحدود هنا: المحافظة على الواجبات والانتهاء عن المحرمات .

                                                                                                                                                                                              وفي حديث النعمان بن بشير ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يخالطه . ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه " . وهو حديث متفق على صحته .

                                                                                                                                                                                              فمثل المحرمات في هذا الحديث: بالحمى، وهو ما يحميه الملوك وتمنع من قربانه، وجعل الحلال بينا والحرام بينا، ومراده: الحلال المحض والحرام المحض، فإن لكل منها حدودا معروفة في الشريعة . وجعل بينهما أمورا مشتبهة على كثير من الناس، لا يدرون هل هي من الحلال أم من الحرام . فدل على أن من الناس من لا يشتبه عليه حكمها، فيعلم أنها حلال أو أنها حرام . فأما من اشتبه عليه حكمها: فإن الأولى له أن يتقيها ويجتنبها، كما قال عمر : ذروا الربا والريبة) . وأخبر أنه من وقع في الأمور المشتبهة وقع في الحرام، والمراد: أن نفسه [ ص: 85 ] تدعوه من ارتكاب الشبهات إلى ارتكاب الحرام .

                                                                                                                                                                                              ومثله بالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، فأما من بعد عن الحمى فإنه يبعد وقوعه في الحرام; ولهذا قال من قال من السلف: اجعل بينك وبين الحرام شيئا من الحلال .

                                                                                                                                                                                              وفي الحديث المرفوع، الذي خرجه الترمذي : "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس" . وهذه الأمور المشتبهات: منها ما يقوى شبهه بالحرام، ومنها ما يبعد شبهه بالحرام، ومنها ما يتردد، لشبهة بين الحلال والحرام . فالأول: يقوى فيه التحريم، والثاني: يقوى فيه الكراهة، والثالث: يتردد فيه، واجتناب الكل حسن، وهو الأفضل والأولى . وقوله: " فيهما - يعني: السورين - أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة" . ثم فسر الأبواب المفتحة: بمحارم الله، لما شبه حدود الله بالسورين المكتنفين للصراط يمنة ويسرة - والسور يقتضي المنع، وأصل الحد في اللغة المنع - شبه المحارم بالأبواب المفتحة في السورين اللذين هما حد الصراط المستقيم ونهايته، وجعل الأبواب مفتحة غير مغلقة ولا مقفلة، وجعل عليها ستورا مرخاة بحيث يتمكن كل أحد من رفع تلك الستور وولوج تلك الأبواب . [ ص: 86 ] وهكذا الشهوات المحرمة، فإن النفوس متطلعة إليها وقادرة عليها، وإنما يمنع منها مانع الإيمان خاصة، والنفوس مولعة بمطالعة ما منعت منه; كما في الحديث "لو يمنع الناس فت البعر لقالوا فيه الدر" . وفي حديث آخر مرفوع: "لو نهيت أحدهم أن يأتي الحجون لأوشك أن يأتيه مرارا وليس له إليه حاجة" .

                                                                                                                                                                                              وحكاية ذي النون المصري مع يوسف بن الحسين الرازي - في الطبق الذي أرسله، وأمره أن لا يكشفه - معروفة . والمحرمات أمانة من الله عند عبده، والسمع أمانة، والبصر واللسان أمانة . والفرج أمانة، وهو أعظمها . وكذلك الواجبات كلها أمانات: كالطهارة، والصيام، والصلاة، وأداء الحقوق إلى أهلها، قال الله تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا (72) ثم ذكر حكمه، فقال: ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات

                                                                                                                                                                                              وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات " . وفي رواية: "حجبت " بدل: "حفت " . فالله سبحانه امتحن عباده في هذه الدار بهذه المحرمات من الشهوات [ ص: 87 ] والشبهات، وجعل في النفس داعيا إلى حبها مع تمكن العبد منها وقدرته فمن أدى الأمانة، وحفظ حدود الله ومنع نفسه ما يحبه من محارم الله كان عاقبته الجنة; كما قال تعالى: وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى (41) . فلذلك يحتاج العبد في هذه الدار إلى مجاهدة عظيمة، يجاهد نفسه في الله - عز وجل - كما في الحديث: "المجاهد من جاهد نفسه في الله - عز وجل " فمن كانت نفسه شريفة، وهمته عالية لم يرض لها بالمعاصي، فإنها خيانة ولا يرضى بالخيانة إلا من لا نفس له . قال بعض السلف: رأيت المعاصي نذالة، فتركتها مروة فاستحالت ديانة .

                                                                                                                                                                                              وقال آخر منهم: تركت الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع .

                                                                                                                                                                                              وقال آخر: من عمل في السر عملا يستحيي منه إذا ظهر عليه، فليس لنفسه عنده قدر .

                                                                                                                                                                                              قال بعضهم: ما أكرم العباد أنفسهم بمثل طاعة الله، ولا أهانوها بمثل معاصي الله عز وجل . فمن ارتكب المحارم فقد أهان نفسه . وفي المثل المضروب: أن الكلب قال للأسد: يا سيد السباع، غير اسمي فإنه قبيح . فقال له: أنت خائن، لا يصلح لك غير هذا الاسم . قال: فجربني . فأعطاه شقة لحم، وقال: احفظ لي هذه إلى غد، وأنا أغير اسمك . فجاع، وجعل [ ص: 88 ] ينظر إلى اللحم ويصبر . فلما غلبته نفسه قال: وأي شيء أعمل باسمي . وما كلب إلا اسم حسن فأكل .

                                                                                                                                                                                              ولهذا المعنى: شبه الله عالم السوء الذي لم ينتفع بعلمه بالكلب " فقال تعالى: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون (177) . والمراد بهذا المثل: أن من لم يزجره علمه عن القبيح، صار القبيح عادة له ولم يؤثر فيه علمه شيئا، فيصير حاله كحال الكلب اللاهث " فإنه إن طرد لهث، وإن ترك لهث، فالحالتان عنده سواء . وهذا أخس أحوال الكلب وأبشعها، فكذلك من يرتكب القبائح مع جهله ومع علمه، فلا يؤثر علمه شيئا" وكذلك مثل من لا يرتدع عن القبيح بوعظ ولا زجر ولا غيره . فإن فعل القبيح يصير عادة، ولا ينزجر عنه بوعظ ولا تأديب ولا تعليم . بل هو متبع للهوى على كل حال، فهذا كل من اتبع هواه، ولم ينزجر عنه بوعظ ولا غيره . وسواء كان الهوى المتبع داعيا إلى شهوة حسية، كالزنا والسرقة وشرب الخمر، أو إلى غضب وحقد وكبر وحسد، أو إلى شبهة مضلة في الدين . وأشد ذلك: حال من اتبع هواه في شبهة مضلة، ثم من اتبع هواه في غضب وكبر وحقد وحسد، ثم من اتبع هواه في شهوة حسية . [ ص: 89 ] ولهذا يقال: إن من كانت معصيته في شهوة فإنه يرجى له، ومن كانت معصيته في كبر لم يرج . ويقال: إن البدع أحب إلى إبليس من المعاصي " لأن المعاصي يتاب منها والبدع يعتقدها صاحبها دينا فلا يتوب منها . والمقصود: أنه لما كانت النفس والهوى داعيين إلى فتح أبواب المحارم وكشف ستورها وارتكابها، جعل الله - عز وجل - لها داعيين يزجران من يريد ارتكاب المحارم وكشف ستورهما . أحدهما: داعي القرآن، وهو الداعي على رأس الصراط يدعو الناس كلهم إلى الدخول في الصراط والاستقامة عليه، وأن لا يعوجوا عنه يمنة ولا يسرة . ولا يفتحوا شيئا من تلك الأبواب التي عليها الستور المرخاة: قال الله عز وجل حاكيا عن عباده المؤمنين أنهم قالوا: ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا والمراد به القرآن عند أكثر السلف . وقال حاكيا عن الجن الذين استمعوا القرآن، أنهم لما رجعوا إلى قومهم قالوا: إنا سمعنا كتابا أنـزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله

                                                                                                                                                                                              وقد وصف الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأنه يدعو الخلق بالكتاب إلى الصراط المستقيم; كما قال الله - تعالى: كتاب أنـزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد (1) . وقال تعالى: وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون (74) . [ ص: 90 ] وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو الخلق بالقرآن إلى الدخول في الإسلام، الذي هو الصراط المستقيم، وبذلك استجاب له خواص المؤمنين كأكابر المهاجرين والأنصار . ولهذا المعنى قال مالك : فتحت المدينة بالقرآن . يعني: أن أهلها إنما دخلوا في الإسلام بسماع القرآن . كما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير ، قبل أن يهاجر إلى المدينة . فدعا أهل المدينة إلى الإسلام بتلاوة القرآن عليهم، فأسلم كثير منهم . قال بعض السلف: من لم يردعه القرآن والموت، لو تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع .

                                                                                                                                                                                              وقال آخر: من لم يتعظ بثلاث، لم يتعظ بشيء: الإسلام والقرآن . والمشيب، كما قيل: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

                                                                                                                                                                                              قال يحيى بن معاذ : الإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك .

                                                                                                                                                                                              منع الهوى من كاعب ومدام . نور المشيب وواعظ الإسلام



                                                                                                                                                                                              ومن كان في الدنيا قد خرج عن الاستقامة على الصراط، ففتح أبواب المحارم التي في ستور الصراط يمنة ويسرة، ودخل إليها - سواء كانت المحارم من الشهوات أو من الشبهات - أخذته الكلاليب التي على ذلك الصراط يمنة ويسرة، بحسب ما فتح في الدنيا من أبواب المحارم ودخل إليها . فمنهم المكدوش في النار، ومنهم من تخدشه الكلاليب وينجو .

                                                                                                                                                                                              رأى بعض السلف - وكان شابا - في منامه: كأن الناس حشروا، وإذا بنهر من لهب النار عليه جسر يجوز الناس عليه يدعون بأسمائهم . فمن دعي [ ص: 91 ] أجاب، فناج وهالك . قال: فدعي باسمي، فدخلت في الجسر فإذا حد كحد السيف يمور بي يمينا وشمالا . فأصبح الرجل أبيض الرأس واللحية، مما رأى .

                                                                                                                                                                                              سمع بعضهم قائلا يقول شعرا:

                                                                                                                                                                                              أمامي موقف قدام ربي .     يسائلني وينكشف الغطاء
                                                                                                                                                                                              وحسبي أن أمر على صراط .     كحد السيف أسفله لظاء



                                                                                                                                                                                              فغشي عليه .

                                                                                                                                                                                              قال الفضيل لبشر: بلغني أن الصراط مسيرة خمسة عشر ألف فرسخ . فانظر كيف تكون عليه .

                                                                                                                                                                                              قال بعض السلف: بلغنا أن الصراط يكون على بعض الناس أدق من الشعر، وعلى بعضهم كالوادي الواسع . قال سهل التستري : من دق على الصراط في الدنيا عرض له في الآخرة ومن عرض له في الدنيا الصراط دق عليه في الآخرة .

                                                                                                                                                                                              والمعنى: أن من صبر نفسه على الاستقامة على الصراط ولم يعرج عنه يمنة ويسرة، ولا كشف شيئا من الستور المرخاة على جانبيه - مما تهواه النفوس من الشهوات أو الشبهات - بل سار على متن الصراط المستقيم حتى أتى ربه وصبر على دقة ذلك، عرض له الصراط في الآخرة . ومن وسع على نفسه الصراط في الدنيا، فلم يستقم على جادته - بل كشف ستوره المرخاة من جانبيه يمنة ويسرة، ودخل مما شاءت نفسه من الشهوات والشبهات - دق عليه الصراط في الآخرة، فكان عليه أدق من الشعر . [ ص: 92 ]

                                                                                                                                                                                              أما آن يا صاح أن تستفيقا .     وأن تتناسى الهوى والفسوقا
                                                                                                                                                                                              وقد ضحك الشيب فاحزن له .     وصار مساؤك فيه شروقا
                                                                                                                                                                                              ألا فازجر النفس عن غيها .     عساك تجوز الصراط الدقيقا
                                                                                                                                                                                              ودون الصراط لنا موقف .     به يتناسى الصديق الصديقا
                                                                                                                                                                                              فتبصر ما شئت كفا تعض .     وعينا تسح وقلبا خفوقا
                                                                                                                                                                                              إذا أطبقت فوقهم لم تكن .     تسمع إلا البكاء والشهيقا
                                                                                                                                                                                              شرابهم المهل في قعرها .     يقطع أوصالهم والعروقا



                                                                                                                                                                                              قال إبراهيم بن أدهم : كل الحلال، وادع بما شئت . وقال لرجل: اعبد الله سرا، حتى تخرج على الناس يوم القيامة كمينا . ومما أنشد بعضهم شعرا:

                                                                                                                                                                                              أروح وقد ختمت على فؤادي .     بحبك أن يحل به سواكا
                                                                                                                                                                                              فلو أني استطعت غضضت طرفي .     فلم أبصر به حتى أراكا
                                                                                                                                                                                              أحبك لا ببعضي بل بكلي .     وإن لم يبق حبك لي حراكا
                                                                                                                                                                                              ويقبح من سواك الفعل عندي .     وتفعله فيحسن منك ذاكا
                                                                                                                                                                                              وفي الأحباب مخصوص بوجد .     وآخر يدعي معه اشتراكا
                                                                                                                                                                                              إذا اشتبكت دموع في خدود .     تبين من بكى ممن تباكى
                                                                                                                                                                                              فأما من بكى فيذوب وجدا .     وينطق بالهوى من قد تشاكا



                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية