الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فيما تعرف به المصالح والمفاسد وفي تفاوتهما

ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل وذلك معظم الشرائع ; إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة ، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن ، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن ، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن ، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن ، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن ، وأن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن ، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن .

واتفق الحكماء على ذلك . وكذلك الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض ، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال . وإن اختلف في بعض ذلك فالغالب أن ذلك [ ص: 6 ] لأجل الاختلاف في التساوي والرجحان ، فيتحير العباد عند التساوي ويتوقفون إذا تحيروا في التفاوت والتساوي .

وكذلك الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما ، ويجلبون أعلى السلامتين والصحتين ولا يبالون بفوات أدناهما ، ويتوقفون عند الحيرة في التساوي والتفاوت ; فإن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام ، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك ، ولجلب ما أمكن جلبه من ذلك . فإن تعذر درء الجميع أو جلب الجميع فإن تساوت الرتب تخير ، وإن تفاوتت استعمل الترجيح عند عرفانه والتوقف عند الجهل به . والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب ، فإن كل واحد منهما موضوع لجلب مصالح ودرء مفاسدهم .

وكما لا يحل الإقدام للمتوقف في الرجحان في المصالح الدينية حتى يظهر له الراجح ، فكذلك لا يحل للطبيب الإقدام مع التوقف في الرجحان إلى أن يظهر له الراجح ، وما يحيد عن ذلك في الغالب إلا جاهل بالصالح والأصلح ، والفاسد والأفسد ، فإن الطباع مجبولة على ذلك بحيث لا يخرج عنه إلا جاهل غلبت عليه الشقاوة أو أحمق زادت عليه الغباوة . فمن حرم ذبح الحيوان من الكفرة رام بذلك مصلحة الحيوان فحاد عن الصواب ; لأنه قدم مصلحة حيوان خسيس على مصلحة حيوان نفيس ، ولو خلوا عن الجهل والهوى لقدموا الأحسن على الأخس ، ولدفعوا الأقبح بالتزام القبيح . { فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين } ؟ فمن وفقه الله وعصمه أطلعه على دق ذلك وجله ، ووفقه للعمل بمقتضى ما أطلعه عليه فقد فاز وقليل ما هم .

قال : وقد كنا نعدهم قليلا فقد صاروا أقل من القليل ، وكذلك المجتهدون في الأحكام من وفقه الله وعصمه من الزلل أطلعه الله على الأدلة الراجحة ، فأصاب الصواب فأجره على قصده وصوابه ، بخلاف من أخطأ الرجحان [ ص: 7 ] فإن أجره على قصده واجتهاده ، ويعفى عن خطئه وزلله . وأعظم من ذلك الخطأ فيما يتعلق بالأصول . واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد نظرا لهم من رب الأرباب ، كما ذكرنا في هذا الكتاب ، فلو خيرت الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لاختار الألذ ، ولو خير بين الحسن والأحسن لاختار الأحسن ، ولو خير بين فلس ودرهم لاختار الدرهم ، ولو خير بين درهم ودينار لاختار الدينار . لا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح ، أو شقي متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت . واعلم أن المصالح الخالصة عزيزة الوجود ، فإن المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمراكب والمساكن لا تحصل إلا بنصب مقترن بها ، أو سابق ، أو لاحق ، وأن السعي في تحصيل هذه الأشياء كلها شاق على معظم الخلق لا ينال إلا بكد وتعب ، فإذا حصلت اقترن بها من الآفات ما ينكدها وينغصها ، فتحصيل هذه الأشياء شاق . أما المآكل والمشارب فيتألم الإنسان بشهوتها ، ثم يتألم بالسعي في تحصيلها . ثم يتألم بما يصير إليه الطعام والشراب من النجاسة والأقذار ومعالجة غسله بيده .

وأما الملابس فمفاسدها مشقة اكتسابها ، وما يقترن بها من آفاتها ; كالتخرق والتفتق والبلى والاحتراق .

وأما المناكح فيتألم المرء بمؤنها ونفقتها وكسوتها وجميع حقوقها .

وأما المراكب فمفاسدها مشقة اكتسابها والعناء في القيام بعلفها وسقيها وحفظها وسياستها ، وما عساه يلحقها من الآفات ، وكذلك الرقيق فيه هذه المفاسد .

وأما المساكن فلا تحصل إلا بكد ونصب ، وتقترن بها آفاتها من الانهدام والاحتراق والتزلزل والتعيب وسوء الجار ، والضيق على من لا يستطيع ضيقها ، واتساعها على من يتألم باتساعها ، وسوء صقعها في الوخامة والدمامة والبعد من الماء ومجاورة الأتونات والحمامات والمدابغ ذوات الروائح المستخبثات .

[ ص: 8 ] والاشتهاء كله مفاسد لما فيه من الآلام ، فلا تحصل لذة شهوة إلا بتألم الطبع بتلك الشهوة ، فإن كانت مؤدية إلى مفسدة عاجلة أو آجلة يعقبها ما ينبني عليها من المفاسد العظام ، ورب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا وعذابا وبيلا . فإن قيل إذا كانت الشهوة ألما ومرارة فالجنة إذن دار الآلام والمرارات لأن فيها ما تشتهي الأنفس ؟ قلت ألم الشهوة مختص بدار المحنة .

وأما دار الكرامة فإن اللذة تحصل فيها من غير ألم يتقدمها أو يقترن بها ، لأن اللذة والألم في ذلك عرضان متلازمان في هذه الدار بحكم العادة المطردة ، وتلك الدار قد خرقت فيها العادة كما خرقت في المخاط والبصاق والبول والغائط والتعادي والتحاسد ومساوئ الأخلاق .

وكذلك تخرق العادة في وجدان لذتها من غير ألم سابق أو مقارن ; فيجد أهلها لذة الشراب من غير عطش ولا ظمأ ، ولذة الطعام من غير جوع ولا سغب ، وكذلك خرق العادات في العقوبات ; فإن أقل عقوبات الآخرة لا تبقى معه في هذه الدار حياة .

وأما في تلك الدار فإن أحدهم لتأتيه أسباب الموت من كل مكان وما هو بميت .

وأما مصالح الآخرة ومفاسدها فلا تعرف إلا بالنقل ، ومصالح الدارين ومفاسدهما في رتب متفاوتة فمنها ; ما هو في أعلاها ، ومنها ما هو في أدناها ، ومنها ما يتوسط بينهما ، وهو منقسم إلى متفق عليه ومختلف فيه . فكل مأمور به ففيه مصلحة الدارين أو إحداهما ، وكل منهي عنه ففيه مفسدة فيهما أو في إحداهما ، فما كان من الاكتساب محصلا لأحسن المصالح فهو أفضل الأعمال ، وما كان منها محصلا لأقبح المفاسد فهو أرذل الأعمال . فلا سعادة أصلح من العرفان والإيمان وطاعة الرحمن ، ولا شقاوة أقبح من الجهل بالديان والكفر والفسوق والعصيان . ويتفاوت ثواب الآخرة بتفاوت المصالح في الأغلب ، ويتفاوت عقابها بتفاوت المفاسد في الأغلب ، ومعظم مقاصد القرآن الأمر باكتساب المصالح وأسبابها ، والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها ، فلا نسبة بمصالح الدنيا ومفاسدها إلى مصالح الآخرة ومفاسدها ، لأن مصالح الآخرة [ ص: 9 ] خلود الجنان ورضا الرحمن ، مع النظر إلى وجهه الكريم ، فيا له من نعيم مقيم ، ومفاسدها خلود النيران وسخط الديان مع الحجب عن النظر إلى وجهه الكريم ، فيا له من عذاب أليم ، والمصالح ثلاثة أنواع : أحدها مصالح المباحات .

الثاني مصالح المندوبات .

الثالث : مصالح الواجبات .

والمفاسد نوعان : أحدهما : مفاسد المكروهات .

الثاني : مفاسد المحرمات .

التالي السابق


الخدمات العلمية