الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              المقدمة

                                                                                              (2) باب

                                                                                              وجوب الأخذ عن الثقات ، والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

                                                                                              قال الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [ الحجرات : 6 ] الآية ، وقال : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] وقال : ممن ترضون من الشهداء [ البقرة : 282 ] .

                                                                                              [ 1 ] عن المغيرة بن شعبة ، وسمرة بن جندب ، قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من حدث عني بحديث يرى أنه كذب ، فهو أحد الكذابين . رواه أحمد ( 4 \ 252 ) ، ومسلم ( 1 \ 9 - المقدمة ) ، والترمذي ( 2662 ) ، وابن ماجه ( 39 ) .

                                                                                              [ ص: 106 ] [ ص: 107 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 106 ] [ ص: 107 ] (2) ومن باب : وجوب الأخذ عن الثقات والتحذير من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

                                                                                              الكذب لغة : هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به ، غير أن المحرم شرعا ، المستقبح عادة : هو العمد المقصود ، إلا ما استثني على ما يأتي .

                                                                                              ويقال : كذب ، بمعنى : أخطأ .

                                                                                              وأصل الكذب في الماضي والخلف في المستقبل ; قاله ابن قتيبة ; وقد جاء الكذب في المستقبل ; قال الله تعالى : ذلك وعد غير مكذوب [ هود : 65 ] .

                                                                                              ويقال : كذب الرجل ، بفتح العين ، يكذب ، بكسرها ، كذبا ، بكسر الكاف وسكون الذال ، وكذبا ، بفتح الكاف وكسر الذال ، فأما " كذاب " المشدد الذال ، فأحد مصادر كذب بالتشديد .

                                                                                              قوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [ الحجرات : 6 ] . الفاسق في أصل اللغة : هو الخارج مطلقا ، والفسق والفسوق : الخروج ، ومنه قولهم : فسقت الرطبة : إذا خرجت من قشرها الأعلى ، ومنه سميت الفأرة : فويسقة ; لأنها تخرج من جحرها للفساد .

                                                                                              وهو في الشرع : خروج مذموم بحسب المخروج منه ، فإن كان [ ص: 108 ] إيمانا ، فذلك الفسق كفرا ، وإن كان غير إيمان ، فذلك الفسق معصية .

                                                                                              وقرئ في السبع : " فتبينوا " : من البيان ، و " تثبتوا " ; من التثبت ، وكلاهما بمعنى متقارب .

                                                                                              ولم يختلف النقلة - فيما علمت أن هذه الآية نزلت بسبب الوليد بن عقبة ، بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني المصطلق مصدقا ، فلما أبصروه ، أقبلوا نحوه ، فهابهم لإحنة كانت بينهم في الجاهلية ، وقيل : إنهم لم يخرجوا إليه ، وأخبر أنهم ارتدوا ; ذكره أبو عمر بن عبد البر ، فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبره أنهم ارتدوا ومنعوا الزكاة ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد ، وأمره بالتثبت في أمرهم ، فأتاهم ليلا ، فسمع الأذان ، ووجدهم يصلون ، وقالوا له : قد استبطأنا المصدق ، وخفنا غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فرجع خالد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبره بذلك ; فنزلت الآية .

                                                                                              ومقتضى الآية أن الفاسق لا يقبل خبره ، رواية كان أو شهادة ، وهو مجمع عليه في غير المتأول ، ما خلا ما حكي عن أبي حنيفة من حكمه بصحة عقد النكاح الواقع بشهادة فاسقين . وحكمة ذلك أن الخبر أمانة ، والفسق خيانة ، ولا يوثق بخؤون .

                                                                                              وقال الفقهاء : لا يقبل قوله ; لأن جرأته على الفسق تخرم الثقة بقوله ، فقد يجترئ على الكذب كما اجترأ على الفسق .

                                                                                              فأما الفاسق المتأول الذي لا يعرف فسق نفسه ، ولا يكفر ببدعته : فقد اختلف في قبول قوله ، فقبل الشافعي شهادته ، وردها القاضي أبو بكر . وفرق مالك بين أن يدعو إلى بدعة فلا تقبل ، أو لا يدعو فتقبل ، وروي عنه : أنه لا تقبل شهادتهم مطلقا .

                                                                                              وكلهم اتفقوا على أن من كانت بدعته تجرئه على الكذب كالخطابية من الرافضة ، لم تقبل روايته ولا شهادته ، ولبسط حجج هذه المذاهب موضع آخر .

                                                                                              [ ص: 109 ] و (قوله : " وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] : دليل على اشتراط العدالة في الشهادة ، ومعناها في اللغة : الاستقامة ، والاعتدال ضد الاعوجاج ، ويقال : عدل من العدالة والعدولة ، ويقال : عدل ، للواحد وللاثنين ولجماعة المذكر والمؤنث ، بلفظ واحد ; إذا قصد به قصد المصدر ، وإذا قصد به الصفة ، ثني وجمع ، وذكر وأنث .

                                                                                              وهي عند أئمتنا : اجتناب الكبائر ، واتقاء الصغائر وما يناقض المروءة ، ويزري بالمناصب الدينية ، والعبارة الوجيزة عنها هي : حسن السيرة ، واستقامة السريرة شرعا في ظن المعدل ، وتفصيلها في الفروع . وهل يكتفى في ظن حصول تلك الأحوال في العدل بظاهر الإسلام ، مع عدم الاطلاع على فسق ظاهر ، أو لا بد من اختبار حاله حتى يظن حصول تلك الأمور في المعدل ؟ قولان لأهل العلم :

                                                                                              الأول : مذهب أبي حنيفة .

                                                                                              والثاني : مذهب مالك ، والشافعي ، والجمهور ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

                                                                                              وعلى مذهب أبي حنيفة : فشهادة المسلم المجهول الحال مقبولة ، وهي على مذهب الجمهور مردودة . وقد ذكرنا حجج الفريقين في كتابنا : " الجامع لمقاصد علم الأصول " .

                                                                                              و (قوله : " ممن ترضون من الشهداء [ البقرة : 282 ] الظاهر من هذا الخطاب : أنه لمن افتتح الكلام معهم في أول الآية في قوله : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وهم : المخاطبون بقوله : وأشهدوا إذا تبايعتم [ ص: 110 ] وبقوله : واستشهدوا شهيدين من رجالكم وعلى هذا الظاهر وكل من رضيه المتداينان والمتبايعان فأشهداه ، حصل به مقتضى الخطاب ; غير أنهما قد يرضيان بمن لا يرضى به الحاكم ، ولا يسمع شهادته ، فلا ينتفعان بالإشهاد ، ولا يحصل مقصود الشرع من الاستيثاق بالشهادة ; إذ لم يثبت بما فعلاه عقد ، ولا يحفظ به مال .

                                                                                              ولما كان ذلك قال العلماء : إن المخاطب بذلك الحكام ; إذ هم الذين يعرفون المرضي شرعا من غيره ، فتثبت بمن يرضونه العقود ، وتحفظ الأموال والدماء والأبضاع ، ويحصل الفصل بين الخصوم فيما يتنازعون فيه من الحقوق ، وذلك هو مقصود الشرع من قاعدة الشهادة قطعا ، ولا يحصل ذلك برضا غيرهم ; فتعين الحكام لهذا الخطاب الذي هو قوله : ممن ترضون من الشهداء .

                                                                                              وإذا تقرر هذا ، فالذي يرضاه الحاكم : هو العدل الذي انتفت عنه التهم القادحة في الشهادة ; كالقرابة القريبة ، وجر المنفعة لنفسه أو لولده أو لزوجته ، وكالعداوة البينة ، والصداقة المفرطة - على تفصيل وخلاف يعرف في الفقه - فقد أفادت الآيتان معنيين :

                                                                                              أحدهما : اعتبار اجتماع أوصاف العدالة التي إذا اجتمعت ، صدق على الموصوف بهما أنه عدل .

                                                                                              والثاني : اعتبار نفي القوادح التي إذا انتفت ، صدق على من انتفت عنه أنه مرضي .

                                                                                              فلا بد من اجتماع الأمرين في قبول الشهادة ; ولذلك لا يكتفى عندنا في التزكية بأن يقول المزكي : هو عدل فقط ، بل حتى يقول : هو عدل مرضي ; فيجمع بينهما .

                                                                                              وأما في الأخبار : فلا بد من اعتبار المعنى الأول ، ولا يشترط الثاني [ ص: 111 ] فيها ; إذ يجوز قبول أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الراوي لها العدل ، وإن جر لنفسه بذلك نفعا ، أو لولده ، أو ساق بذلك مضرة لعدوه ; كأخبار علي - رضي الله عنه - عن الخوارج .

                                                                                              وسر الفرق : أنه لا يتهم أحد من أهل العدالة والدين بأن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء من ذلك ، فكيف يقتحم أحد من أهل العدالة والدين لشيء من ذلك مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن كذبا علي ليس ككذب على أحد ; فمن كذب علي ، فليتبوأ مقعده من النار " .

                                                                                              والخبر والشهادة ; وإن اتفقا في أصل اشتراط العدالة ، فقد يفترقان في أمور عديدة ; كما فصلناه في الأصول .

                                                                                              وعلى الجملة : فشوائب المتعبدات ومراعاة المناصب في الشهادات أغلب ، ومراعاة ظن الصدق في الرواية أغلب ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              و (قوله عليه الصلاة والسلام : " من حدث عني بحديث يرى أنه كذب ، فهو أحد الكذابين ") : قيدناه عن مشايخنا : " يرى " مبنيا للفاعل والمفعول : فيرى بالفتح ، بمعنى : يعلم المتعدية لمفعولين ، وأن سدت مسدهما . وماضي يرى : رأى مهموزا ، وإنما تركت العرب همز المضارع ; لكثرة الاستعمال ، وقد نطقوا به على الأصل مهموزا في قولهم :


                                                                                              ألم تر ما لاقيت والدهر أعصر ومن يتمن العيش يرأى ويسمع

                                                                                              وربما تركوا همز الماضي في مثل قولهم :


                                                                                              صاح هل ريت أو سمعت براع رد في الضرع ما قرا في الحلاب ؟

                                                                                              [ ص: 112 ] ويحتمل ما في الحديث أن يكون بمعنى الرأي ; فيكون ظنا من قولهم : رأيت كذا ، أي : ظهر لي . وعليهما يكون المقصود بالذم الذي في الحديث : المتعمد للكذب علما أو ظنا .

                                                                                              وأما يرى بالضم : فهو مبني لما لم يسم فاعله ، ومعناها : الظن ، وإن كان أصلها معدى بالهمزة من " رأى " ، إلا أن استعماله في الظن أكثر وأشهر .

                                                                                              و (قوله : " فهو أحد الكذابين ") : رويناه بكسر الباء على الجمع ; فيكون معناه : أنه أحد الكذابين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين قال الله تعالى في حقهم : ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة الآية [ الزمر : 60 ] ; لأن الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذب على الله تعالى .

                                                                                              ورويناه أيضا - بفتح الباء على التثنية ; ويكون معناه : أن المحدث ، والمحدث بما يظنان أو يعلمان كذبه كاذبان ; هذا بما حدث ، والآخر بما تحمل من الكذب مع علمه أو ظنه لذلك .

                                                                                              ويفيد الحديث : التحذير عن أن يحدث أحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بما تحقق صدقه علما أو ظنا ، إلا أن يحدث بذلك على جهة إظهار الكذب ; فإنه لا يتناوله الحديث .

                                                                                              وفي كتاب الترمذي ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم ، فمن كذب علي متعمدا ، فليتبوأ مقعده من النار ، ومن قال في القرآن برأيه ، فليتبوأ مقعده من النار " ، وقال : هذا حديث حسن .




                                                                                              الخدمات العلمية