الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقال : ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) [ البقرة : 190 ] .

ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة ، وكان محرما ، ثم مأذونا به ، ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال ، ثم مأمورا به لجميع المشركين ، إما فرض عين على أحد القولين ، أو فرض كفاية على المشهور .

والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب ، وإما باللسان ، وإما بالمال ، وإما باليد ، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع .

أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية ، وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان : والصحيح وجوبه ؛ لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء ، كما قال تعالى : ( انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) [ التوبة : 41 ] وعلق النجاة من النار به ومغفرة الذنب ودخول الجنة فقال : ( ياأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم ) [ الصف : 10 ] وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك أعطاهم ما يحبون من النصر والفتح القريب ، فقال : [ ص: 65 ] ( وأخرى تحبونها ) [ الصف : 13 ] أي : ولكم خصلة أخرى تحبونها في الجهاد ، وهي : ( نصر من الله وفتح قريب ) وأخبر سبحانه أنه : ( اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) [ التوبة : 111 ] وأعاضهم عليها الجنة ، وأن هذا العقد والوعد قد أودعه أفضل كتبه المنزلة من السماء ، وهي التوراة والإنجيل والقرآن ، ثم أكد ذلك بإعلامهم أنه لا أحد أوفى بعهده منه تبارك وتعالى ، ثم أكد ذلك بأن أمرهم بأن يستبشروا ببيعهم الذي عاقدوه عليه ، ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوز العظيم .

فليتأمل العاقد مع ربه عقد هذا التبايع ، ما أعظم خطره وأجله ، فإن الله عز وجل هو المشتري ، والثمن جنات النعيم والفوز برضاه ، والتمتع برؤيته هناك . والذي جرى على يده هذا العقد أشرف رسله وأكرمهم عليه من الملائكة والبشر ، وإن سلعة هذا شأنها لقد هيئت لأمر عظيم وخطب جسيم :


قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل



مهر المحبة والجنة بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين ، فما للجبان المعرض المفلس وسوم هذه السلعة ، بالله ما هزلت فيستامها المفلسون ، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون ، لقد أقيمت للعرض في سوق من يريد ، فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس ، فتأخر البطالون ، وقام المحبون ينتظرون أيهم يصلح أن يكون نفسه الثمن ، فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد ( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [ المائدة : 54 ] .

لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى ، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرفة الشجي ، فتنوع المدعون في الشهود ، فقيل : لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) [ آل عمران : 31 ] فتأخر الخلق كلهم ، وثبت أتباع الرسول في أفعاله وأقواله [ ص: 66 ] وهديه وأخلاقه ، فطولبوا بعدالة البينة ، وقيل : لا تقبل العدالة إلا بتزكية ( يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) [ المائدة : 54 ] فتأخر أكثر المدعين للمحبة ، وقام المجاهدون فقيل لهم : إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فسلموا ما وقع عليه العقد فإن ( الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) وعقد التبايع يوجب التسليم من الجانبين ، فلما رأى التجار عظمة المشتري وقدر الثمن وجلالة قدر من جرى عقد التبايع على يديه ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه هذا العقد عرفوا أن للسلعة قدرا وشأنا ليس لغيرها من السلع ، فرأوا من الخسران البين والغبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة تذهب لذتها وشهوتها وتبقى تبعتها وحسرتها ، فإن فاعل ذلك معدود في جملة السفهاء ، فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان رضى واختيارا من غير ثبوت خيار ، وقالوا : والله لا نقيلك ولا نستقيلك ، فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم : قد صارت أنفسكم وأموالكم لنا ، والآن فقد رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعاف أموالكم معها ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) [ آل عمران : 169 ] لم نبتع منكم نفوسكم وأموالكم طلبا للربح عليكم ، بل ليظهر أثر الجود والكرم في قبول المعيب والإعطاء عليه أجل الأثمان ، ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمن .

تأمل قصة جابر بن عبد الله " وقد اشترى منه صلى الله عليه وسلم بعيره ، ثم وفاه الثمن وزاده ، ورد عليه البعير ، وكان أبوه قد قتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد ، فذكره بهذا الفعل حال أبيه مع الله ، وأخبره ( أن الله أحياه ، وكلمه كفاحا ، وقال : يا عبدي تمن علي ) " فسبحان من [ ص: 67 ] عظم جوده وكرمه أن يحيط به علم الخلائق ، فقد أعطى السلعة ، وأعطى الثمن ، ووفق لتكميل العقد ، وقبل المبيع على عيبه ، وأعاض عليه أجل الأثمان ، واشترى عبده من نفسه بماله ، وجمع له بين الثمن والمثمن ، وأثنى عليه ومدحه بهذا العقد ، وهو سبحانه الذي وفقه له وشاءه منه .


فحيهلا إن كنت ذا همة فقد     حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم     إذا ما دعا لبيك ألفا كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن     نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد     ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وخذ منهم زادا إليهم وسر على     طريق الهدى والحب تصبح واصلا
وأحي بذكراهم شراك إذا دنت     ركابك فالذكرى تعيدك عاملا
وإما تخافن الكلال فقل لها     أمامك ورد الوصل فابغي المناهلا
وخذ قبسا من نورهم ثم سر به     فنورهم يهديك ليس المشاعلا
وحي على وادي الأراك فقل به     عساك تراهم ثم إن كنت قائلا
وإلا ففي نعمان عندي معرف الـ     أحبة فاطلبهم إذا كنت سائلا
وإلا ففي جمع بليلته فإن     تفت فمنى يا ويح من كان غافلا
وحي على جنات عدن فإنها     منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا     وقفت على الأطلال تبكي المنازلا
وحي على يوم المزيد بجنة الـ     خلود فجد بالنفس إن كنت باذلا
فدعها رسوما دارسات فما بها     مقيل وجاوزها فليست منازلا
رسوما عفت ينتابها الخلق كم بها     قتيل وكم فيها لذا الخلق قاتلا
وخذ يمنة عنها على المنهج الذي     عليه سرى وفد الأحبة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة     فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي     ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا



لقد حرك الداعي إلى الله وإلى دار السلام النفوس الأبية ، والهمم العالية

[ ص: 68 ] وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية ، وأسمع الله من كان حيا ، فهزه السماع إلى منازل الأبرار ، وحدا به في طريق سيره ، فما حطت به رحاله إلا بدار القرار ، فقال : ( انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة ، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية ، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ، ثم أقتل ثم أحيا ، ثم أقتل ) .

وقال : ( مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة ، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة ) .

وقال : ( غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ) .

[ ص: 69 ] وقال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى : ( أيما عبد من عبادي خرج مجاهدا في سبيلي ابتغاء مرضاتي ، ضمنت له أن أرجعه إن أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة ، وإن قبضته أن أغفر له وأرحمه وأدخله الجنة )

وقال : جاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة ينجي الله به من الهم والغم ) .

وقال : " أنا زعيم - والزعيم الحميل - لمن آمن بي ، وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة ، وببيت في وسط الجنة ، وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم ، وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة ، وببيت في وسط الجنة ، وببيت في أعلى غرف الجنة ، من فعل ذلك ، لم يدع للخير مطلبا ، ولا من الشر مهربا يموت حيث شاء أن يموت ) .

وقال : من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة ، وجبت له الجنة ) .

[ ص: 70 ] وقال : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة ) .

وقال لأبي سعيد : من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ، وجبت له الجنة " فعجب لها أبو سعيد ، فقال : أعدها علي يا رسول الله ، ففعل ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " قال : وما هي يا رسول الله ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله ) .

وقال : ( من أنفق زوجين في سبيل الله ، دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب ، أي فل هلم ، فمن كان من أهل الصلاة ، دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد ، دعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقة ، دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الصيام ، دعي من باب الريان فقال أبو بكر : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة ، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ؟ قال : نعم وأرجو أن تكون منهم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية