الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 154 ] فصل

وأما نفيه للمماسة فقال «ابن فورك»: «فصل آخر في ذكر إبطال المماسة، قال في كتاب «الصفات الكبير»: «ولو كان مماسا لعرشه، لكان العرش مماسا له، ولو كان العرش مماسا له، لحدث فيه عن مماسته إياه معنى، كما يحدث بين كل متماسين، وتعالى الله عن الحوادث، فلما فسدت مماسة العرش إياه فسدت مماسته العرش».

قال «ابن فورك»: «وهذا يبين من كلامه إحالة المماسة على الله، ويبين أيضا من مذهبه بأن الحوادث لا تحل في ذاته، وأن ما حلته الحوادث محدث، على خلاف ما ذهبت إليه الكرامية، المجسمة الجهلة، وأن المتماسين متماسان، بحدوث متماسين فيهما».

قلت: هذا الذي ذكره «ابن فورك» من قوله: وهو كما ذكره، وكذلك ما ذكر من مخالفته للكرامية، في مسألة الحوادث، لكن الكرامية أقرب إلى «ابن كلاب» في مسألة العرش، وعلو الله عليه، فإن قولهم وقول «ابن كلاب» في ذلك متقاربان، و «ابن فورك» [ ص: 155 ] وأصحابه أقرب إلى «ابن كلاب» في مسألة الحوادث، فإن قولهم فيها كقول «ابن كلاب» لا كقول الكرامية، ولهذا كان المنتسبون إلى «ابن كلاب» من أهل الكلام، والفقه والحديث، لا يعرف عنهم خلاف أهل الحديث، في مسألة العرش، وإنما وقع النزاع بينهم وبين غيرهم في مسألة القرآن، والله أعلم.

وقد تبين بما ذكرناه، أن المخالفين لأهل الإسلام، في مسألة العرش، وأن الله فوقه، كانوا في صدر الإسلام من أقل الناس، كما ذكره «ابن كلاب» إمام «الأشعري» وأصحابه، وإن كان أكثر الأشعرية المتأخرين، قد صاروا في ذلك مع المعتزلة; بل يقال أشهر الطوائف بهذا النفي، الذي ذكره عنده، وعند أمثاله; الفلاسفة المشائين أتباع «أرسطو» من المتقدمين، و «كالفارابي» و «ابن سينا» ونحوهما من المتأخرين، ومن [ ص: 156 ] أخبر الناس بمقالات «أرسطو» وأصحابه، ومن أكثر الناس عناية بها، وقولا بها وشرحا لها، وبيانا لما خالفه فيه، «ابن سينا» وأمثاله منهم القاضي «أبو الوليد بن رشد» الحفيد الفيلسوف، حتى أنه يرد على من خالفهم، كما صنف كتابه «تهافت التهافت» الذي رد فيه على «أبي حامد الغزالي» ما رده على الفلاسفة، وإن لم يكن مصيبا، فيما خالف فيه مقتضى الكتاب والسنة، بل هو مخطئ خطأ عظيما، بل ما هو أعظم من ذلك، وإن زعم أنه أوجبه البرهان، وأنه من علم الخاصة دون الجمهور، ولكن الغرض أنه مع مبالغته في اتباع آراء الفلاسفة المشائين، هو مع هذا نقل عن الفلاسفة إثبات الجهة، وقد قرر ذلك بطرقهم العقلية، التي يسمونها البراهين، مع أنه يرتضي طرق أهل الكلام، بل يسميها هو وأمثاله الطريق الجدلية، ويسمونهم أهل الجدل، كما يسميهم بذلك [ ص: 157 ] «ابن سينا» وأمثاله، فإنهم لما قسموا أنواع القياس العقلي، الذي ذكروه في القياس إلى برهاني، وجدلي، وخطابي، وشعري، وسفسطائي، زعموا أن مقاييسهم في العلم الإلهي، من النوع البرهاني، وأن غالب مقاييس المتكلمين إما من الجدلي، وإما من الخطابي، كما يوجد هذا في كلام علماء الفلاسفة، «كالفارابي» و «ابن سينا» و «محمد بن يوسف العامري» [ ص: 158 ] و «ابن رشد» وغيرهم، وإن كانوا في هذه الدعاوي ليسوا صادقين على الإطلاق، بل الأقيسة البرهانية في العلم الإلهي، هي في كلام المتكلمين أكثر منها وأشرف منها في كلامهم، وإن كان في كلام المتكلمين أيضا، أقيسة جدلية وخطابية وشعرية، بل وسوفسطائية كثيرة، فهذه الأنواع هي في كلامهم أكثر منها في كلام المتكلمين، وأضعف إذا أخذ ما تكلموا فيه من العلم الإلهي، بالنسبة إلى ما تكلم به المتكلمون.

التالي السابق


الخدمات العلمية