الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 141 ] فصل في سورة حم السجدة [فصلت] [ ص: 142 ] [ ص: 143 ] فصل

سورة حم السجدة مشتملة على تقرير أمر القرآن بما تضمنه أصول الإيمان، التي هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، بذلك فتحت وبذلك ختمت. كما أن سورة الشورى أيضا بدأت بالوحي، وختمت بالوحي المتضمن للقرآن والإيمان.

قال تعالى: حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون في ذكر القرآن ومستمعيه، إلى قوله: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه يتضمن الإخلاص والتوحيد والنبوة. وجماع الأمر الاستقامة إليه والاستغفار، كما في قوله: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك ، وكما قال: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه .

وذم المشركين الذين لا يؤتون الزكاة، فإن الشرك ضد الاستقامة إليه، التي هي الإخلاص، كما فسر أبو بكر الصديق قوله: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا قال: استقاموا إليه، فلم يلتفتوا يمينا ولا شمالا. فإن المستقيم ضد الزائغ، فالمستقيم إليه ضد الزائغ عنه، والزائغ عنه المشرك به. وعدم إيتاء الزكاة - وهو ما تزكو به [ ص: 144 ] النفوس من الذنوب فتصير زكية - ضد الاستغفار الذي يمحو الذنوب، فتزكو النفوس. ففي ذلك جمع بين الإخلاص والعمل الصالح، وهو الإيمان والعمل الصالح وإسلام الوجه لله مع الإحسان.

وكل واحد من التوبة والصدقة يمحو الذنوب، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار" . ولهذا قال سبحانه: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ، وقال في التوبة: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، وفي الصدقة: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها .

ثم ذكر تقرير الربوبية بخلق السماوات والأرض وما فيهما، وبدء العالم. ثم ذكر أخبار الأشقياء والسعداء في الدنيا والآخرة، فذكر الوعيد في الدنيا بقص الأمم المتقدمة، وفي الآخرة بذكر ما يكون في القيامة، فقال: فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة إلى قوله: ويوم يحشر ، فيشبه والله أعلم أي "وأنذرتكم يوم يحشر"، وقد يقال: "واذكر يوم يحشر"، إلى قوله: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، فإنه ذكر حشر حالهم في الدنيا والآخرة، كما ذكر سوء منقلب أولئك في الدنيا والآخرة. [ ص: 145 ]

ثم ذكر الدين المأمور به، وهو الخلق العظيم، وهو دين الإسلام، ليجمع بين إسلام الوجه لله وبين العمل الصالح بين القصد والعمل، ملة إبراهيم ودين محمد - صلى الله عليه وسلم - تسليما. ثم قرر البعث بالدليل.

ثم عاد إلى مخاطبة الكافرين بالذكر وتقرير أمره، فقال: إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا إلى قوله: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز إلى قوله- وهو كان المقصود بالكلام هنا -: قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد ، فإن الضمير عائد إلى الكتاب، وهو القرآن.

ثم قال: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ، فالضمير في قوله أنه الحق هو الضمير في قوله إن كان من عند الله ثم كفرتم به ، وذلك هو القرآن، أي حتى يتبين لهم أن الكتاب هو الحق لا ما خالفه.

ثم قال: أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد أي أولم يكف بشهادته عليه أنه منزل من عند الله، من الآيات المرتبة في الآفاق وفي الأنفس، كما قال: لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا . وشهادة الله تعالى [ ص: 146 ] يعلم بما به يعلم أن هذا كلامه، وأن المبلغ صادق، مثل كونهم لا يقدرون على الإتيان بمثله ولا بمثل عشر سور منه ولا سورة واحدة، وما امتاز به من الوصف الذي باين به كلام المخلوقين مما هو معلوم بالعقل والفطرة. كما أصاب عتبة بن ربيعة ونحوه من أكابر عقلاء قريش لما سمعوا منه حم تنزيل من الرحمن الرحيم ، وكما قال فيه عاقلهم وفيلسوفهم ورئيسهم الوليد بن مغيرة ، وغير ذلك.

فالكفاية هنا تشبه الكفاية في قوله: وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله إلى قوله: أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم . فنزول الكتاب يتلى عليهم آية كافية، وهو شهادة الله بما أخبر فيه، وبأن الرسول رسوله، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد . فهذا ونحوه طرق يعلم بها شهادة الله.

وثم طرق أخرى، وهي إخبار رسل الله المتقدمين، وإخبار أممهم عنهم بمثل ما أخبر به هذا الرسول، فلذلك قال: قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ، وقال: [ ص: 147 ]

قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ، وقال: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ، وقال: أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط إلى قوله: ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله .

فالقرآن قد أخبر الله فيه بأمور، وإخباره بها شهادته بها، وكفى بالله شهيدا، فنفس إخباره وشهادته بما شهد به من أمر الربوبية والرسالة والثواب والعقاب وأحوال أوليائه وأعدائه كاف، وهو الطريق السمعية. وقد قال: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق . فهذه الطريق البصرية التي قد تسمى العقل، وهو أن يرد في أنفسهم وفي الآفاق ما يدلهم على مثل ما دل عليه القرآن، فيروا حال المؤمنين بمحمد وحال الكافرين به كما أخبروا به عن المتقدمين، ويروا أيضا حالهم إذا آمنوا أو كفروا، ويروا أيضا الدلائل الدالة على وحدانية الخالق وصفاته التي شهد بها الرب.

فالكلام في شيئين: في أن القرآن منزل من عند الله، وهذا قد شهد به الله بما أتى به، وسيريهم آيات يعاينونها تبين أنه منزل من عند الله. والثاني: الكلام فيما أخبر به القرآن أيضا كما تقدم، وأن الحق يتناول نسبته إلى الله، ويتناول أنه صدق في نفسه، والله شهيد بالأمرين، وقد أرى آياته على الأمرين. [ ص: 148 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية