الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 59 ] العالي والنازل


737 . وطلب العلو سنة وقد فضل بعض النزول وهو رد      738 . وقسموه خمسة فالأول
قرب من الرسول وهو الأفضل      739 . إن صح الاسناد وقسم القرب
إلى إمام وعلو نسبي      740 . بنسبة للكتب الستة إذ
ينزل متن من طريقها أخذ

التالي السابق


روينا عن أحمد بن حنبل ، قال : طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف . وروينا عن محمد بن أسلم الطوسي ، قال : قرب الإسناد قرب ، أو قربة إلى الله عز وجل . وقال الحاكم : "وفي طلب الإسناد العالي سنة صحيحة ، فذكر حديث أنس في مجيء الأعرابي ، وقوله : يا محمد ، أتانا رسولك فزعم كذا ، . . . الحديث . قال : ولو كان طلب العلو في الإسناد غير مستحب لأنكر عليه سؤاله عما أخبره رسوله عنه ، ولأمره بالاقتصار على ما أخبره الرسول عنه" . ولم يحك الحاكم خلافا في تفضيل العلو ، [ ص: 60 ] وحكاه ابن خلاد ، ثم الخطيب ، فحكيا عن بعض أهل النظر : أن التنزل في الإسناد أفضل ; لأنه يجب على الراوي أن يجتهد في متن الحديث ، وتأويله ، وفي الناقل وتعديله ، وكلما زاد الاجتهاد زاد صاحبه ثوابا . قال ابن خلاد : "وهذا مذهب من يزعم أن الخبر أقوى من القياس" . قال ابن الصلاح : "وهذا مذهب ضعيف الحجة" . قال ابن دقيق العيد : لأن كثرة المشقة ليست مطلوبة لنفسها ، قال : "ومراعاة المعنى المقصود من الرواية ، وهو الصحة أولى" . قلت : وهذا بمثابة من يقصد المسجد لصلاة الجماعة ، فيسلك طريقة بعيدة لتكثير الخطا ، وإن أداه سلوكها إلى فوات الجماعة التي هي المقصود . وذلك أن المقصود من الحديث التوصل إلى صحته وبعد الوهم . وكلما كثر رجال الإسناد تطرق إليه احتمال الخطأ والخلل ، وكلما قصر السند كان أسلم . اللهم إلا أن يكون رجال السند النازل ، أوثق ، أو أحفظ ، أو أفقه ، ونحو ذلك ، على ما سيأتي في آخر هذا الفصل .

ثم العلو في الإسناد على خمسة أقسام ، كما قسمه أبو الفضل محمد بن طاهر في جزء له ، أفرده لذلك ، وتبعه ابن الصلاح على كونها خمسة أقسام ، وإن اختلف كلامهما في ماهية بعض الأقسام ، كما سيأتي [ ص: 61 ] .

القسم الأول : القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من حيث العدد بإسناد نظيف غير ضعيف . وإليه الإشارة بقولي : (إن صح الاسناد) ، فأما إذا كان قرب الإسناد مع ضعف بعض الرواة ، فلا التفات إلى هذا العلو ، لا سيما إن كان فيه بعض الكذابين المتأخرين ممن ادعى سماعا من الصحابة ، كإبراهيم بن هدبة ، ودينار بن عبد الله ، وخراش ، ونعيم بن سالم ، ويعلى بن الأشدق وأبي الدنيا الأشج ، ونحوهم . قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في الميزان : "متى رأيت المحدث يفرح بعوالي أبي هدبة ، ويعلى بن الأشدق ، وموسى الطويل ، وأبي الدنيا ، وهذا الضرب ، فاعلم أنه عامي بعد" . وهذا القسم الأول هو أفضل أنواع العلو ، وأجلها ، وأعلى ما يقع للشيوخ في هذا الزمان من الأحاديث الصحاح المتصلة بالسماع ; ما هو تساعي الإسناد ، ولا يقع ذلك في هذه الأزمان إلا من الغيلانيات ، وجزء الأنصاري ، وجزء الغطريف فقط . أو ما هو مأخوذ منها . ولا يقع لأمثالنا من الصحيح المتصل بالسماع ، إلا عشاري الإسناد ، وقد يقع لنا التساعي الصحيح ، ولكن بإجازة في الطريق ،والله أعلم .

وقول الذهبي في تأريخ الإسلام في ترجمة ابن البخاري : وهو آخر من كان في الدنيا بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثمانية رجال ثقات ، فإنه يريد مع اتصال السماع . أما مع الإجازة فقد تأخر بعده جماعة ، والله أعلم [ ص: 62 ] .

والقسم الثاني من أقسام العلو : القرب إلى إمام من أئمة الحديث ، كالأعمش وهشيم ، وابن جريج ، والأوزاعي ، ومالك ، وسفيان ، وشعبة ، وزهير ، وحماد بن زيد ، وإسماعيل بن علية ، وغيرهم من أئمة الحديث . وكلام الحاكم يشير إلى ترجيح هذا القسم على غيره ، وأنه المقصود من العلو ، وإنما يوصف بالعلو إذا صح الإسناد إلى ذلك الإمام بالعدد اليسير ، كما صرح به الحاكم ، وهو كذلك ، كما مر في القسم الأول . وأعلى ما يقع اليوم للشيوخ بينهم وبين هؤلاء الأئمة من حيث العدد مع صحة السند ، واتصاله بالسماع أن بينهم وبين الأعمش وهشيم ، وابن جريج ، والأوزاعي ، ثمانية . وبينهم وبين مالك والثوري ، وشعبة ، وزهير ، وحماد بن سلمة ، سبعة ، وبينهم وبين ابن علية ستة . وقد ساوينا الشيوخ بالنسبة إلى هشيم ، فبيننا وبينه سبعة بالسماع الصحيح المتصل .

والقسم الثالث : العلو المقيد بالنسبة إلى رواية الصحيحين ، وبقية الكتب الستة . وسماه ابن دقيق العيد : علو التنزيل ، ولم يذكر ابن طاهر هذا القسم ، وجعل القسم الثالث : علو تقدم السماع ، وجمع بينه وبين قسم تقدم الوفاة ، فجعلهما قسما واحدا ، كما سيأتي ولكن هذا القسم يؤخذ من كلام ابن طاهر في آخر الجزء المذكور ، وإن لم يذكره في الأقسام . وليس هذا علوا مطلقا في جميع هذا القسم ، وإنما هو بالنسبة لهذه الكتب ، إذ الراوي لو روى الحديث من طريق كتاب من الستة يقع أنزل مما لو رواه من غير طريقها ، وقد يكون عاليا مطلقا أيضا ، مثاله : حديث رواه الترمذي لابن مسعود مرفوعا : يوم كلم الله موسى كانت عليه جبة صوف . . . الحديث [ ص: 63 ] .

رواه الترمذي عن علي بن حجر عن خلف بن خليفة . فلو رويناه من طريق الترمذي وقع بيننا وبين خلف تسعة ، فإذا رويناه من جزء بن عرفة ، وقع بيننا وبينه سبعة بعلو درجتين . فهذا مع كونه علوا بالنسبة ، فهو أيضا علو مطلق ، ولا يقع اليوم لأحد هذا الحديث أعلى من هذا ، وكل واحد من شيخنا فمن بعده إلى خلف هو آخر من رواه عن شيخه بالسماع من الجزء المذكور ، وقول ابن الصلاح : "إن هذا النوع من العلو ، علو تابع لنزول" محمول على الغالب ، وإلا فهذا الحديث المذكور عال للترمذي ، وعال لنا ، وليس هو عاليا بالنسبة فقط . وهذا النوع هو الذي يقع فيه الموافقات ، والإبدال ، والمساواة ، والمصافحات ، على ما سيأتي بيانها .




الخدمات العلمية