الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فصل

قال الرازي: لو كان مركبا من الجوارح والأعضاء لاحتاج في الإبصار إلى العين، وفي الفعل إلى اليد، وفي المشي إلى الرجل، وذلك ينافي كونه صمدا مطلقا.

قلت: هذه الحجة كان يمكن أن يذكرها في اسم الله كما ذكرها في الاسم الصمد؛ إذ مضمونها الاحتجاج بما في أسمائه من الدلالة على الغنى على عدم هذه الصفات، لكن لما كانت من جنس الحجة التي قبلها لم يذكرها إلا في الاسم الصمد لظهور دلالته على الغنى، وقد قدمنا أن لفظ الجوارح [ ص: 220 ] والأعضاء مما لا يقولها الصفاتية، فمضمون حجته أنه لو كان الله خلق آدم بيديه وكتب التوراة بيده وخلق عدنا بيده لكان الله محتاجا في الفعل إلى يد، وذلك ينافي كونه صمدا، وهذا قد ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة المتفق على صحتها المتلقاة بالقبول.

والكلام على هذا من وجوه:

أحدها: أن ثبوت ما أثبته الدليل من هذه الصفات لم يوجب حاجة الرب إليها؛ فإن الله سبحانه قادر أن يخلق ما يخلقه بيديه وقادر أن يخلق ما يخلقه بغير يديه، وقد وردت الأثارة من العلم بأنه خلق بعض الأشياء بيديه وخلق بعض الأشياء بغير يديه، قال عثمان بن سعيد الدارمي: ثنا عبد الله بن صالح، [ ص: 221 ] حدثني ليث، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، [ ص: 222 ] عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: لقد قالت الملائكة: يا ربنا منا الملائكة المقربون، ومنا حملة العرش، ومنا الكرام الكاتبون، ونحن نسبح الله الليل والنهار ولا نسأم ولا نفتر، خلقت بني آدم، فجعلت لهم الدنيا [ ص: 223 ] وجعلتهم يأكلون ويشربون ويستريحون، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة، فقال: لن أفعل، ثم عادوا فاجتهدوا المسألة، فقال: لن أفعل، ثم عادوا فاجتهدوا المسألة بمثل ذلك، فقال: لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان.

[ ص: 224 ] وقد روى نحو هذا عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أظنه مرسلا، [ ص: 225 ] وقال الدارمي: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عبيد بن [ ص: 226 ] مهران، وهو المكتب، حدثنا مجاهد، قال عبد الله بن عمر: خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش، والقلم، وعدن، وآدم، ثم قال لسائر الخلق: كن، فكان. [ ص: 227 ] وقال حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن [ ص: 228 ] عطاء بن السائب، عن ميسرة، قال: إن الله لم يمس شيئا من خلقه غير ثلاث: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده. [ ص: 229 ] وقال: حدثنا محمد بن المنهال، حدثنا يزيد بن [ ص: 230 ] زريع، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، [ ص: 231 ] عن كعب، قال: لم يخلق الله بيده غير ثلاث: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده، ثم قال لها: تكلمي، قالت: قد أفلح المؤمنون.

[ ص: 232 ] وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة أن موسى يقال له: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده، وفي لفظ: وكتب لك التوراة بيده، وثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وغرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده.

وأما الفعل باليد غير الخلق، فقد ثبت بالكتاب والسنة قبضته الأرض والسموات، وقد تواترت بذلك الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما؛ كقوله: يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟! ثم يطوي الأرض بيده الأخرى، وفي رواية مسلم: بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟! [ ص: 233 ] أين المتكبرون؟! وقوله: تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة.

وهذا كما أنه سبحانه وتعالى قد كتب في اللوح المحفوظ وفي غيره ما كتبه من مقادير الخلائق، وقال تعالى:ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير [الحج 70] .

[ ص: 234 ] وقال تعالى: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم [الحديد 22-23] ثم لم تدل كتابته لذلك على أنه محتاج إلى الكتاب، والكتاب خوف النسيان والغلط مع أن الكتاب أمر منفصل عنه، فخلقه ما يخلقه بيديه أولى أن لا يدل على حاجته إلى ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية