الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 218 ] فصل .

[ تعريف المناسبة ] : المناسبة في اللغة : المشاكلة والمقاربة ومرجعها في الآيات ونحوها إلى معنى رابط بينها عام أو خاص ، عقلي ، أو حسي ، أو خيالي ، أو غير ذلك من أنواع العلاقات ، أو التلازم الذهني كالسبب والمسبب ، والعلة والمعلول ، والنظيرين والضدين ، ونحوه .

وفائدته : جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض ، فيقوى بذلك الارتباط ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء ، فنقول : ذكر الآية بعد الأخرى إما أن يكون ظاهر الارتباط لتعلق الكلم بعضه ببعض ، وعدم تمامه بالأولى فواضح . وكذلك إذا كانت الثانية للأولى على وجه التأكيد أو التفسير أو الاعتراض أو البدل ، وهذا القسم لا كلام فيه .

وإما أن لا يظهر الارتباط بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى ، وأنها خلاف النوع المبدوء به ، فإما أن تكون معطوفة على الأولى بحرف من حروف العطف المشتركة في الحكم أو لا ، فإن كانت معطوفة فلا بد أن يكون بينهما جهة جامعة على ما سبق تقسيمه ، كقوله تعالى : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها [ الحديد : 4 ] . وقوله : والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون [ البقرة : 245 ] . للتضاد بين القبض والبسط والولوج والخروج والنزول والعروج ، وشبه التضاد بين السماء والأرض .

ومما الكلام فيه التضاد : ذكر الرحمة بعد ذكر العذاب والرغبة بعد الرهبة وقد جرت عادة القرآن إذا ذكر أحكاما ذكر بعدها وعدا ووعيدا ليكون باعثا على العمل بما سبق ثم يذكر آيات توحيد وتنزيه ليعلم عظم الآمر والناهي ، وتأمل سورة البقرة والنساء والمائدة تجده كذلك .

وإن لم تكن معطوفة فلا بد من دعامة تؤذن باتصال الكلام وهي قرائن معنوية تؤذن بالربط [ ص: 219 ] وله أسباب .

أحدها : التنظير فإن إلحاق النظير بالنظير من شأن العقلاء كقوله : كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، عقب قوله : أولئك هم المؤمنون حقا [ الأنفال : 4 ، 5 ] . فإنه تعالى أمر رسوله أن يمضي لأمره في الغنائم على كره من أصحابه ، كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير أو للقتال وهم له كارهون . والقصد أن كراهتهم لما فعله من قسمة الغنائم ككراهتهم للخروج ، وقد تبين في الخروج الخير من الظفر والنصر والغنيمة وعز الإسلام ، فكذا يكون فيما فعله في القسمة فليطيعوا ما أمروا به ويتركوا هوى أنفسهم .

الثاني : المضادة كقوله في سورة البقرة : إن الذين كفروا سواء عليهم [ البقرة : 6 ] . الآية فإن أول السورة كان حديثا عن القرآن ، وأن من شأنه الهداية للقوم الموصوفين بالإيمان ، فلما أكمل وصف المؤمنين ، عقب بحديث الكافرين فبينهما جامع وهمي بالتضاد من هذا الوجه ، وحكمته التشويق والثبوت على الأول ، كما قيل : وبضدها تتبين الأشياء .

فإن قيل : هذا جامع بعيد لأن كونه حديثا عن المؤمنين بالعرض لا بالذات ، والمقصود بالذات الذي هو مساق الكلام إنما هو الحديث عن القرآن لأنه مفتتح القول .

قيل : لا يشترط في الجامع ذلك بل يكفي التعلق على أي وجه كان ، ويكفي في وجه الربط ما ذكرنا ، لأن القصد تأكيد أمر القرآن والعمل به ، والحث على الإيمان ، ولهذا لما فرغ من ذلك قال : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا [ البقرة : 23 ] . فرجع إلى الأول .

الثالث : الاستطراد كقوله تعالى : يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير [ الأعراف : 26 ] . قال الزمخشري : هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدو السوءات ، وخصف الورق عليهما إظهارا للمنة في ما خلق من اللباس ، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة وإشعارا بأن الستر باب عظيم من أبواب التقوى .

وقد خرجت على الاستطراد قوله تعالى : لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون [ النساء : 172 ] . فإن أول الكلام ذكر للرد على النصارى الزاعمين [ ص: 220 ] بنوة المسيح ، ثم استطرد للرد على العرب الزاعمين بنوة الملائكة .

ويقرب من الاستطراد حتى لا يكادان يفترقان حسن التخلص وهو أن ينتقل مما ابتدئ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاسا دقيق المعنى ، بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع عليه الثاني ، لشدة الالتئام بينهما .

وقد غلط أبو العلاء محمد بن غانم في قوله : لم يقع منه في القرآن شيء لما فيه من التكلف وقال : إن القرآن إنما ورد على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب من الانتقال إلى غير ملائم ، وليس كما قال : ففيه من التخلصات العجيبة ما يحير العقول .

وانظر إلى سورة الأعراف كيف ذكر فيها الأنبياء والقرون الماضية والأمم السالفة ثم ذكر موسى إلى أن قص حكاية السبعين رجلا ودعائه لهم ، ولسائر أمته بقوله : واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة وجوابه تعالى عنه ، ثم تخلص بمناقب سيد المرسلين بعد تخلصه لأمته بقوله : قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين [ الأعراف : 156 ] . من صفاتهم كيت وكيت ، وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمي وأخذ في صفاته الكريمة وفضائله .

وفي سورة الشعراء : حكى قول إبراهيم : ولا تخزني يوم يبعثون فتخلص منه إلى وصف المعاد بقوله يوم لا ينفع مال ولا بنون [ الشعراء : 87 - 88 ] .

وفي سورة الكهف : حكى قول ذي القرنين في السد بعد دكه الذي هو من أشراط الساعة ثم النفخ في الصور ، وذكر الحشر ، ووصف ما للكفار والمؤمنين .

وقال بعضهم : الفرق بين التخلص والاستطراد : أنك في التخلص تركت ما كنت فيه بالكلية ، وأقبلت على ما تخلصت إليه ، وفي الاستطراد تمر بذكر الأمر الذي استطردت إليه مرورا كالبرق الخاطف ، ثم تتركه وتعود إلى ما كنت فيه ، كأنك لم تقصده وإنما عرض عروضا .

قيل : وبهذا يظهر أن ما في سورتي الأعراف والشعراء من باب الاستطراد لا التخلص لعوده في الأعراف إلى قصة موسى بقوله : ومن قوم موسى أمة [ الأعراف : 59 ] . وفي الشعراء إلى ذكر الأنبياء والأمم .

[ ص: 221 ] ويقرب من حسن التخلص الانتقال من حديث إلى آخر تنشيطا للسامع ، مفصولا بهذا كقوله في سورة ص بعد ذكر الأنبياء : هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب [ ص : 49 ] . فإن هذا القرآن نوع من الذكر لما انتهى ذكر الأنبياء وهو نوع من التنزيل ، أراد أن يذكر نوعا آخر وهو ذكر الجنة وأهلها ، ثم لما فرغ قال : هذا وإن للطاغين لشر مآب [ ص : 55 ] . فذكر النار وأهلها .

قال ابن الأثير : هذا في هذا المقام من الفصل الذي هو أحسن من الوصل ، وهي علاقة أكيدة بين الخروج من كلام إلى آخر .

ويقرب منه أيضا حسن المطلب ، قال الزنجاني والطيبي : وهو أن يخرج إلى الغرض بعد تقدم الوسيلة ، كقوله : إياك نعبد وإياك نستعين [ الفاتحة : 5 ] . قال الطيبي : ومما اجتمع فيه حسن التخلص والمطلب معا قوله حكاية عن إبراهيم : فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين [ الشعراء : 77 ، 78 ] . إلى قوله : رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين .

التالي السابق


الخدمات العلمية