الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4626 (2) باب ما يتقى من دعاء الأم

                                                                                              [ 2457 ] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم وصاحب جريج، وكان جريج رجلا عابدا فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي فقالت : يا جريج فقال : يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت : يا جريج فقال : يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته فقالت : يا جريج فقال : أي رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فقالت : اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها فقالت : إن شئتم لأفتننه لكم. قال : فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت : هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال : ما شأنكم؟ قالوا : زنيت بهذه البغي فولدت منك، فقال : أين الصبي؟ فجاؤوا به فقال : دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه، فقال : يا غلام من أبوك؟ قال : فلان الراعي، قال : فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب، قال : لا أعيدوها من طين، كما كانت، ففعلوا. وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة، فقالت أمه : اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه فقال : اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع، فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فمه، فجعل يمصها، قال : ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون : زنيت سرقت وهي تقول : حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه : اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع، ونظر إليها فقال : اللهم اجعلني مثلها، فهناك تراجعا الحديث. فقالت : حلقى مر رجل حسن الهيئة فقلت : اللهم اجعل ابني مثله فقلت : اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها، ويقولون : زنيت سرقت فقلت : اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت : اللهم اجعلني مثلها، قال : إن ذاك الرجل كان جبارا فقلت : اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها : زنيت ولم تزن، سرقت ولم تسرق فقلت : اللهم اجعلني مثلها .

                                                                                              وفي رواية : فوصف أبو هريرة صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جريج حين دعته كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه، فقالت : يا جريج أنا أمك كلمني فصادفته يصلي، فقال : اللهم أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فقالت في الثالثة : اللهم إن هذا جريج وهو ابني وإني كلمته، فأبى أن يكلمني، اللهم فلا تمته حتى تريه وجه المومسات، قال : ولو دعت عليه أن يفتتن لفتن ، وذكر نحو قصة جريج لا غير .

                                                                                              رواه أحمد (2 \ 307)، والبخاري (2482)، ومسلم (2550) (7 و 8).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              ومن باب : ما يتقى من دعاء الأم

                                                                                              (قوله : " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ") المهد : أصله مصدر مهدت الشيء أمهده : إذا سويته وعدلته . فمهد الصبي : كل محل يسوى له ويوطأ ، وقد يكون سريره ، وقد يكون حجر أمه ، كما قال قتادة : في قوله تعالى : كيف نكلم من كان في المهد صبيا [مريم: 29] أي : في حجر أمه . وظاهر هذا الحصر يقتضي أن لا يوجد صغير تكلم في المهد إلا هؤلاء الثلاثة ، وهم : عيسى ، وصبي جريج ، والصبي المتعوذ من الجبار . وقد جاء من حديث صهيب المذكور في تفسير سورة البروج في قصة الأخدود : أن امرأة جيء بها لتلقى في النار على إيمانها ومعها صبي لها في - غير كتاب مسلم : يرضع - فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها [ ص: 512 ] الغلام : يا أمه ! اصبري ، فإنك على الحق . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : إن شاهد يوسف كان صبيا في المهد ، وقال الضحاك : تكلم في المهد ستة : شاهد يوسف ، وصبي ماشطة امرأة فرعون وعيسى ، ويحيى ، وصاحب جريج ، وصاحب الأخدود .

                                                                                              قلت : فأسقط الضحاك صبي الجبار ، وذكر مكانه يحيى ، وعلى هذا فيكون المتكلمون في المهد سبعة ، فبطل الحصر بالثلاثة المذكورين في الحديث .

                                                                                              قلت : ويجاب عن ذلك : بأن الثلاثة المذكورين في الحديث هم الذين صح أنهم تكلموا في المهد ، ولم يختلف فيهم فيما علمت ، واختلف فيمن عداهم ، فقيل : إنهم كانوا كبارا بحيث يتكلمون ويعقلون ، وليس فيهم أصح من حديث صاحب الأخدود ، ولم تسلم صحة الجميع ، فيرتفع الإشكال بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بما كان في علمه مما أوحي عليه في تلك الحال ، ثم بعد هذا أعلمه الله تعالى بأشياء من ذلك ، فأخبرنا بذلك على ما في علمه .

                                                                                              و (قوله : " يا رب أمي وصلاتي ") قول يدل على : أن جريجا - رضي الله عنه - كان عابدا ، ولم يكن عالما ؟ إذ بأدنى فكرة يدرك أن صلاته كانت ندبا ، وإجابة أمه كانت عليه واجبة ، فلا تعارض يوجب إشكالا ، فكان يجب عليه تخفيف [ ص: 513 ] صلاته ، أو قطعها ، وإجابة أمه ، لا سيما وقد تكرر مجيئها إليه ، وتشوقها واحتياجها لمكالمته . وهذا كله يدل على تعين إجابته إياها ، ألا ترى أنه أغضبها بإعراضه عنها ، وإقباله على صلاته ؟ ويبعد اختلاف الشرائع في وجوب بر الوالدين . وعند ذلك دعت عليه ، فأجاب الله دعاءها تأديبا له ، وإظهارا لكرامتها ، والظاهر من هذا الدعاء أن هذه المرأة كانت فاضلة عالمة ، ألا ترى كيف تحرزت في دعائها فقالت : اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات ، فقالت : حتى ينظر ، ولم تقل غير ذلك ، وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث : ولو دعت عليه أن يفتن لفتن . وهي أيضا : لو كظمت غيظها وصبرت لكان ذلك الأولى بها ، لكن لما علم الله تعالى صدق حالهما لطف بهما ، وأظهر مكانتهما عنده بما أظهر من كرامتهما .

                                                                                              وفائدته : تأكد سعي الولد في إرضاء الأم ، واجتناب ما يغير قلبها ، واغتنام صالح دعوتها ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " الجنة تحت أقدام الأمهات " أي : من انتهى من التواضع لأمه بحيث لا يشق عليه أن يضع قدمها على خده استوجب بذلك الجنة ، والأولى في هذا الحديث أن يقال : أنه خرج مخرج المثل الذي يقصد به الإغياء في المبرة والإكرام ، وهو نحو من قوله صلى الله عليه وسلم : " الجنة تحت ظلال السيوف " .

                                                                                              والمومسات : جمع مومسة ، وهي الزانية .

                                                                                              [ ص: 514 ] و (قوله : " يا غلام من أبوك ؟ قال : فلان الراعي ") يتمسك به من قال : إن الزنى يحرم كما يحرم الوطء الحلال ، فلا تحل أم المزني بها ، ولا بناتها للزاني ، ولا تحل المزني بها لآباء الزاني ، ولا لأولاده . وهي رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة ، وفي الموطأ : أن الزنى لا يحرم حلالا . ويستدل به أيضا : أن المخلوقة من ماء الزاني لا تحل للزاني بأمها ، وهو المشهور ، وقد قال عبد الملك بن الماجشون : أنها تحل ، ووجه التمسك على تينك المسألتين : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني ، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك ، فقد صدق الله جريجا في تلك النسبة وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض المدح لجريج وإظهار كرامته ، [ فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله وبإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فثبتت البنوة ] وأحكامها . لا يقال : فيلزم على هذا أن تجري بسببهما أحكام البنوة والأبوة من التوارث ، والولايات ، وغير ذلك ، وقد اتفق المسلمون على : أنه لا توارث بينهما ، فلم تصح تلك النسبة ، لأنا نجيب عن ذلك بأن ذلك موجب ما ذكرناه ، وقد ظهر ذلك في الأم من الزنى ؟ فإن أحكام البنوة والأمومة جارية عليهما ، فما انعقد الإجماع عليه من الأحكام : أنه لا يجري بينهما استثنيناه ، وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل . وفيها مباحث تستوفى في غير هذا الموضع - إن شاء الله تعالى - .

                                                                                              و (قوله : " نبني صومعتك من ذهب . قال : لا! إلا من طين كما كانت ") يدل [ ص: 515 ] على أن : من تعدى على جدار أو دار وجب عليه أن يعيده على حالته ، إذا انضبطت صفته ، وتمكنت مماثلته ، ولا تلزم قيمة ما تعدى عليه ، وقد بوب البخاري على حديث جريج هذا : من هدم حائطا بنى مثله ، وهو تصريح بما ذكرناه ، وهو مقتضى قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [البقرة: 194] فإن تعذرت المماثلة فالمرجع إلى القيمة ، وهو مذهب الكوفيين والشافعي ، وأبي ثور في الحائط ، وفي العتبية عن مالك مثله ، ومذهب أهل الظاهر في كل متلف هذا . ومشهور مذهب مالك وأصحابه ، وجماعة من العلماء : أن فيه وفي سائر المتلفات المضمونات القيمة ؟ إلا ما يرجع إلى الكيل والوزن ؟ بناء منهم على أنه : لا تتحقق المماثلة إلا فيهما .

                                                                                              والدابة الفارهة : الحسنة النجيبة ، والشارة : الهيئة المزينة التي يشار إليها من [ ص: 516 ] حسنها . وحلقى - غير مصروف - ، لأن ألفه للتأنيث كسكرى ، وهي كلمة جرت في كلامهم مجرى المثل ، وأصلها فيمن أصيب حلقها بوجع ، وقد تقدم : أن عقرى وحلقى : من الكلمات التي جرت على ألسنتهم في معرض الدعاء غير المقصود .

                                                                                              وأم هذا الصبي الرضيع نظرت إلى الصورة الظاهرة فاستحسنت صورة الرجل وهيئته ، فدعت لابنها بمثل هذا ، واستقبحت صورة الأمة وحالتها ، فدعت ألا يجعل ابنها في مثل حالتها ، فأراد الله تعالى بلطفه تنبيهها بأن أنطق لها ابنها الرضيع بما تجب مراعاته من الأحوال الباطنة ، والصفات القلبية . وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " ، وكما قال بعض حكماء الشعراء :


                                                                                              ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا إن الجمال معادن
                                                                                              ومناقب أورثن مجدا

                                                                                              وهذا الصبي ظاهره أن الله تعالى خلق فيه عقلا وإدراكا كما يخلقه في الكبار عادة ، ففهم كما يفهمون ، ويكون خرق العادة في كونه خلق له ذلك قبل أوانه ، ويحتمل أن يكون أجرى الله ذلك الكلام على لسانه وهو لا يعقله ، كما خلق في الذراع والحصى كلاما له معنى صحيح ، مع مشاهدة تلك الأمور باقية على جمادتها ، كل ذلك ممكن ، والقدرة صالحة ، والله تعالى أعلم بالواقع منهما .

                                                                                              [ ص: 517 ] فأما عيسى - عليه السلام - فخلق الله له في مهده ما خلق للعقلاء والأنبياء ، في حال كمالهم من العقل الكامل ، والفهم الثاقب ، كما شهد له بذلك القرآن . وفي هذا الحديث ما يدل على صحة وقوع كرامات الأولياء ، وهذا قول جمهور - أهل السنة والعلماء ، وقد نسب لبعض العلماء إنكارها ، والظن بهم : أنهم ما أنكروا أصلها ، لتجويز العقل لها ، ولما وقع في الكتاب والسنة وأخبار صالحي هذه الأمة مما يدل على وقوعها ، وإنما محل الإنكار ادعاء وقوعها ممن ليس موصوفا بشروطها ، ولا هو أهل لها ، وادعاء كثرة وقوع ذلك دائما متكررا حتى يلزم عليه أن يرجع خرق العادة عادة ، وذلك إبطال لسنة الله ، وحسم السبل الموصلة إلى معرفة نبوة أنبياء الله تعالى .




                                                                                              الخدمات العلمية