الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 232 ] النوع الثالث والستون في الآيات المشتبهات .

أفرده بالتصنيف خلق : أولهم فيما أحسب الكسائي ونظمه السخاوي ، وألف في توجيهه الكرماني كتابه : " البرهان في متشابه القرآن " وأحسن منه : " درة التنزيل وغرة التأويل " لأبي عبد الله الرازي ، وأحسن من هذا " ملاك التأويل " لأبي جعفر بن الزبير ، ولم أقف عليه ، وللقاضي بدر الدين بن جماعة في ذلك كتاب لطيف سماه " كشف المعاني عن متشابه المثاني " وفي كتابي : " أسرار التنزيل " المسمى " قطف الأزهار في كشف الأسرار " من ذلك الجم الغفير .

والقصد به إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة ، بل تأتي في موضع واحد مقدما ، وفي آخر مؤخرا ، كقوله في البقرة : وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة [ البقرة : 58 ] . وفي الأعراف : وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا [ الأعراف : 161 ] . وفي البقرة : وما أهل به لغير الله [ البقرة : 173 ] . وسائر القرآن : وما أهل لغير الله به [ المائدة : 3 ] .

أو في موضع بزيادة وفي آخر بدونها ، نحو : سواء عليهم أأنذرتهم في البقرة [ الآية : 6 ] ، وفي يس وسواء عليهم أأنذرتهم [ الآية : 10 ] . وفي البقرة : ويكون الدين لله [ الآية : 193 ] . وفي الأنفال كله لله [ الأنفال : 39 ] . أو في موضع معرفا ، وفي آخر منكرا أو مفردا ، وفي آخر جمعا ، أو بحرف وفي آخر بحرف آخر ، أو مدغما وفي آخر مفكوكا ، وهذا النوع يتداخل مع نوع المناسبات .

[ ص: 233 ] وهذه أمثلة منه بتوجيهها :

قوله تعالى : في البقرة هدى للمتقين [ الآية : 2 ] . وفي لقمان : هدى ورحمة للمحسنين [ الآية : 3 ] . لأنه لما ذكر هنا مجموع الإيمان ناسب المتقين ، ولما ذكر ثم الرحمة ناسب المحسنين .

قوله تعالى : وقلنا ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا [ البقرة : 35 ] . وفي الأعراف : فكلا [ الآية : 19 ] . بالفاء ، قيل : لأن السكنى في البقرة الإقامة ، وفي الأعراف اتخاذ المسكن ، فلما نسب القول إليه تعالى : وقلنا ياآدم ناسب زيادة الإكرام بالواو الدالة على الجمع بين السكنى والأكل ، ولذا قال فيه : رغدا وقال : حيث شئتما لأنه أعم ، وفي الأعراف : ويا آدم فأتى بالفاء الدالة على ترتيب الأكل على السكنى المأمور باتخاذها لأن الأكل بعد الاتخاذ ، ومن حيث لا تعطي عموم معنى حيث شئتما

قوله تعالى : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل [ البقرة : 48 ] . الآية ، وقال بعد ذلك ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة [ البقرة : 123 ] . ففيه تقديم العدل وتأخيره والتعبير بقبول الشفاعة تارة وبالنفع أخرى .

وذكر في حكمته : أن الضمير في منها راجع في الأولى إلى النفس الأولى ، وفي الثانية إلى النفس الثانية .

فبين في الأولى أن النفس الشافعة الجازية عن غيرها لا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ، وقدمت الشفاعة لأن الشافع يقدم الشفاعة على العدل ، وبين في الثانية أن النفس المطلوبة بجرمها لا يقبل منها عدل عن نفسها ، ولا تنفعها شفاعة شافع منها ، وقدم العدل لأن الحاجة إلى الشفاعة إنما تكون عند رده ، ولذلك قال في الأولى : ولا يقبل منها شفاعة وفي الثانية : ولا تنفعها شفاعة لأن الشفاعة إنما تقبل من الشافع وإنما تنفع المشفوع له .

قوله تعالى : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون [ البقرة : 49 ] . وفي إبراهيم ويذبحون [ إبراهيم : 6 ] . بالواو ، لأن الأولى من كلامه تعالى لهم ، [ ص: 234 ] فلم يعدد عليهم المحن تكرما في الخطاب ، والثانية من كلام موسى فعددها ، وفي الأعراف يقتلون [ الأعراف : 141 ] . وهو من تنويع الألفاظ المسمى بالتفنن .

قوله تعالى : وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية [ البقرة : 58 ] . الآية . وفي آية الأعراف اختلاف ألفاظ ، ونكتته أن آية البقرة في معرض ذكر المنعم عليهم حيث قال يابني إسرائيل اذكروا نعمتي [ البقرة : 47 ] . إلى آخره ، فناسب نسبة القول إليه تعالى ، وناسب قوله : رغدا لأن المنعم به أتم وناسب تقديم وادخلوا الباب سجدا [ البقرة : 58 ] . وناسب خطاياكم لأنه جمع كثرة ، وناسب الواو في وسنزيد لدلالتها على الجمع بينهما ، وناسب الفاء في فكلوا لأن الأكل مترتب على الدخول ، وآية الأعراف افتتحت بما فيه توبيخهم وهو قولهم : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة [ الأعراف : 138 ] . ثم اتخاذهم العجل ، فناسب ذلك وإذ قيل لهم [ الأعراف : 161 ] . وناسب ترك رغدا والسكنى تجامع الأكل فقال : وكلوا وناسب تقديم ذكر مغفرة الخطايا وترك الواو في وسنزيد

ولما كان في الأعراف تبعيض الهادين بقوله ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق [ الأعراف : 159 ] . ناسب تبعيض الظالمين بقوله : الذين ظلموا منهم [ الأعراف : 162 ] . ولم يتقدم في البقرة مثله فترك ، وفي البقرة إشارة إلى سلامة غير الذين ظلموا لتصريحه بالإنزال على المتصفين بالظلم ، والإرسال أشد وقعا من الإنزال ، فناسب سياق ذكر النعمة في البقرة ذلك ، وختم آية البقرة ب يفسقون [ البقرة : 59 ] . ولا يلزم منه الظلم ، والظلم يلزم منه الفسق فناسب كل لفظة منها سياقه .

وكذا في البقرة فانفجرت [ البقرة : 60 ] . وفي الأعراف فانبجست [ الأعراف : 160 ] . لأن الانفجار أبلغ في كثرة الماء ، فناسب سياق ذكر النعم التعبير .

قوله تعالى : وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة [ البقرة : 80 ] . وفي آل [ ص: 235 ] عمران : معدودات [ آل عمران : 24 ] . قال ابن جماعة : لأن قائل ذلك فرقتان من اليهود .

إحداهما قالت : إنما نعذب بالنار سبعة أيام عدد أيام الدنيا ، والأخرى قالت : إنما نعذب أربعين ، عدة أيام عبادة آبائهم العجل . فآية البقرة تحتمل قصد الفرقة الثانية حيث عبر بجمع الكثرة وآل عمران بالفرقة الأولى حيث أتى بجمع القلة .

وقال أبو عبد الله الرازي : إنه من باب التفنن ، قوله تعالى : إن هدى الله هو الهدى [ البقرة : 120 ] . وفي آل عمران إن الهدى هدى الله [ آل عمران : 73 ] . لأن الهدى في البقرة المراد به تحويل القبلة ، وفي آل عمران المراد به الدين لتقدم قوله لمن تبع دينكم [ آل عمران : 73 ] . ومعناه : إن دين الله الإسلام .

قوله تعالى : رب اجعل هذا بلدا آمنا [ البقرة : 126 ] . وفي إبراهيم هذا البلد آمنا [ إبراهيم : 35 ] . لأن الأول دعا به قبل مصيره بلدا عند ترك هاجر وإسماعيل به ، وهو واد فدعا بأن يصيره بلدا . والثاني : دعا به بعد عوده ، وسكنى جرهم به ، ومصيره بلدا فدعا بأمنه .

قوله تعالى : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا [ البقرة : 137 ] . وفي آل عمران : قل آمنا بالله وما أنزل علينا [ آل عمران : 84 ] . أن الأولى خطاب للمسلمين ، والثانية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم و ( إلى ) ينتهى بها من كل جهة ، و ( على ) لا ينتهى بها إلا من جهة واحدة وهي العلو ، والقرآن يأتي المسلمين من كل جهة يأتي مبلغه إياهم منها ، وإنما أتى النبي صلى الله عليه وسلم من جهة العلو خاصة ، فناسب قوله : علينا ؛ ولهذا أكثر ما جاء في جهة النبي صلى الله عليه وسلم بعلى ، وأكثر ما جاء في جهة الأمة بإلى .

قوله تعالى تلك حدود الله فلا تقربوها [ البقرة : 187 ] . وقال بعد ذلك : فلا تعتدوها [ البقرة : 229 ] . لأن الأولى وردت بعد نواه ، فناسب النهي عن قربانها ، والثانية [ ص: 236 ] بعد أوامر فناسب النهي عن تعديها وتجاوزها بأن يوقف عندها .

قوله تعالى : نزل عليك الكتاب [ آل عمران : 3 ] . وقال : وأنزل التوراة والإنجيل [ آل عمران : 3 ] . لأن الكتاب أنزل منجما ، فناسب الإتيان ب نزل الدال على التكرير بخلافهما فإنهما أنزلا دفعة .

قوله تعالى : ولا تقتلوا أولادكم من إملاق [ الأنعام : 151 ] . وفي الإسراء : خشية إملاق [ الإسراء : 31 ] . لأن الأولى خطاب للفقراء المقلين : أي : لا تقتلوهم من فقر بكم فحسن نحن نرزقكم ما يزول به إملاقكم ، ثم قال : وإياهم أي : نرزقكم جميعا .

والثانية خطاب للأغنياء : أي : خشية فقر يحصل لكم بسببهم ولذا حسن نحن نرزقهم وإياكم [ الإسراء : 31 ] .

قوله تعالى : فاستعذ بالله إنه سميع عليم [ الأعراف : 200 ] . وفي فصلت : فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ فصلت : 36 ] . قال ابن جماعة : لأن آية الأعراف نزلت أولا ، وآية فصلت نزلت ثانيا ، فحسن التعريف أي : هو السميع العليم الذي تقدم ذكره أولا عند نزوغ الشيطان .

قوله تعالى : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض [ 9 : 67 ] . وقال في المؤمنين : [ ص: 237 ] بعضهم أولياء بعض [ التوبة : 71 ] . وفي الكفار : والذين كفروا بعضهم أولياء بعض [ الأنفال : 73 ] . لأن المنافقين ليسوا متناصرين على دين معين وشريعة ظاهرة ، فكان بعضهم يهودا ، وبعضهم مشركين ، فقال : من بعض أي : في الشك والنفاق . والمؤمنون متناصرون على دين الإسلام ، وكذلك الكفار المعلنون بالكفر كلهم أعوان بعضهم ، ومجتمعون على التناصر بخلاف المنافقين كما قال تعالى : تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى [ الحشر : 14 ] .

فهذه أمثلة يستضاء بها وقد تقدم منها كثير في نوع التقديم والتأخير وفي نوع الفواصل وفي أنواع أخر .



التالي السابق


الخدمات العلمية