الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وكذلك صالح أهل خيبر لما ظهر عليهم على أن يجليهم منها ، ولهم ما حملت ركابهم ، ول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفراء والبيضاء ، والحلقة ، وهي السلاح .

واشترط في عقد الصلح ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئا ، فإن فعلوا ، فلا ذمة لهم ، ولا عهد ، فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب ، واسمه سعية : ( ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير ؟ فقال : أذهبته النفقات والحروب ، فقال : العهد قريب ، والمال أكثر من ذلك ) وقد كان حيي قتل مع بني قريظة لما دخل معهم ، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه إلى الزبير ليستقره ، فمسه بعذاب ، فقال : قد [ ص: 130 ] رأيت حييا يطوف في خربة هاهنا ، فذهبوا فطافوا ، فوجدوا المسك في الخربة ، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق ، وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب ، وسبى نساءهم وذراريهم ، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا ، وأراد أن يجليهم من خيبر ، فقالوا : دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها ، فنحن أعلم بها منكم ، ولم يكن ل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لأصحابه غلمان يكفونهم مؤنتها ، فدفعها إليهم على أن ل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشطر من كل شيء يخرج منها من ثمر أو زرع ، ولهم الشطر ، وعلى أن يقرهم فيها ما شاء .

ولم يعمهم بالقتل كما عم قريظة لاشتراك أولئك في نقض العهد ، وأما هؤلاء فالذين علموا بالمسك وغيبوه وشرطوا له إن ظهر ، فلا ذمة لهم ولا عهد ، فإنه قتلهم بشرطهم على أنفسهم ، ولم يتعد ذلك إلى سائر أهل خيبر ، فإنه معلوم قطعا أن جميعهم لم يعلموا بمسك حيي ، وأنه مدفون في خربة ، فهذا نظير الذمي والمعاهد إذا نقض العهد ، ولم يمالئه عليه غيره ، فإن حكم النقض مختص به .

ثم في دفعه إليهم الأرض على النصف دليل ظاهر على جواز المساقاة والمزارعة ، وكون الشجر نخلا لا أثر له البتة ، فحكم الشيء حكم نظيره ، فبلد شجرهم الأعناب والتين وغيرهما من الثمار ، في الحاجة إلى ذلك ، حكمه حكم بلد شجرهم النخل سواء ولا فرق . [ ص: 131 ]

شجرهم الأعناب والتين وغيرهما من الثمار في الحاجة إلى ذلك ، حكمه حكم بلد شجرهم النخل سواء ولا فرق . وفي ذلك دليل على أنه لا يشترط كون البذر من رب الأرض ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالحهم عن الشطر ، ولم يعطهم بذرا البتة ، ولا كان يرسل إليهم ببذر ، وهذا مقطوع به من سيرته ؛ حتى قال بعض أهل العلم إنه لو قيل باشتراط كونه من العامل لكان أقوى من القول باشتراط كونه من رب الأرض لموافقته لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل خيبر .

والصحيح : أنه يجوز أن يكون من العامل ، وأن يكون من رب الأرض ، ولا يشترط أن يختص به أحدهما ، والذين شرطوه من رب الأرض ليس معهم حجة أصلا أكثر من قياسهم المزارعة على المضاربة ، قالوا : كما يشترط في المضاربة أن يكون رأس المال من المالك ، والعمل من المضارب ، فهكذا في المزارعة ، وكذلك في المساقاة يكون الشجر من أحدهما ، والعمل عليها من الآخر ، وهذا القياس إلى أن يكون حجة عليهم أقرب من أن يكون حجة لهم ، فإن في المضاربة يعود رأس المال إلى المالك ، ويقتسمان الباقي ، ولو شرط ذلك في المزارعة فسدت عندهم فلم يجروا البذر مجرى رأس المال بل أجروه مجرى سائر البقل فبطل إلحاق المزارعة بالمضاربة على أصلهم .

وأيضا فإن البذر جار مجرى الماء ومجرى المنافع ، فإن الزرع لا يتكون وينمو به وحده بل لا بد من السقي والعمل ، والبذر يموت في الأرض ، وينشئ الله الزرع من أجزاء أخر تكون معه من الماء والريح والشمس والتراب والعمل ، فحكم البذر حكم هذه الأجزاء .

وأيضا فإن الأرض نظير رأس المال في القراض ، وقد دفعها مالكها إلى المزارع ، وبذرها وحرثها وسقيها نظير عمل المضارب ، وهذا يقتضي أن يكون المزارع أولى بالبذر من رب الأرض تشبيها له بالمضارب ، فالذي جاءت به السنة هو الصواب الموافق لقياس الشرع وأصوله .

[ ص: 132 ] وفي القصة دليل على جواز عقد الهدنة مطلقا من غير توقيت ، بل ما شاء الإمام ، ولم يجئ بعد ذلك ما ينسخ هذا الحكم البتة ، فالصواب جوازه وصحته ، وقد نص عليه الشافعي في رواية المزني ، ونص عليه غيره من الأئمة ولكن لا ينهض إليهم ويحاربهم حتى يعلمهم على سواء ليستووا هم وهو في العلم بنقض العهد .

وفيها دليل على جواز تعزير المتهم بالعقوبة ، وأن ذلك من السياسات الشرعية ، فإن الله سبحانه كان قادرا على أن يدل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع الكنز بطريق الوحي ، ولكن أراد أن يسن للأمة عقوبة المتهمين ، ويوسع لهم طرق الأحكام رحمة بهم ، وتيسيرا لهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية