الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
ولما فرغ الناظم قدس الله روحه من آداب الأكل والشرب ، شرع في آداب اللباس فقال :

مطلب : في كراهية لباس ما فيه شهرة عند الناس .

ويكره لبس فيه شهرة لابس وواصف جلد لا لزوج وسيد ( ويكره ) تنزيها على الأصح ، وقيل يحرم ( لبس ) أي لبس ملبوس ( فيه ) أي في ذلك الملبوس ( شهرة لابس ) له بمخالفة زي بلده ونحو [ ص: 162 ] ذلك ، فالمعتمد من المذهب كراهية لباس ما فيه شهرة عند الناس ، لما في كتاب التواضع لابن أبي الدنيا وكتاب القاضي أبي يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه نهى عن الشهرتين ، فقيل يا رسول الله وما الشهرتان ؟ قال : رقة الثياب وغلظها ، ولينها وخشونتها ، وطولها وقصرها ، ولكن سدادا بين ذلك واقتصادا } .

وأخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا { من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة } . قال العلامة ابن مفلح في الآداب : حديث حسن قلت : ورواه رزين في جامعه بلفظ { من لبس ثوب شهرة ألبسه الله إياه يوم القيامة ، ثم ألهب فيه النار ، ومن تشبه بقوم فهو منهم } ، قال الحافظ المنذري : لم أره في شيء من الأصول التي جمعها ، وإنما رواه ابن ماجه بإسناد حسن ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ، ثم ألهب فيه نارا }

وروي أيضا عن عثمان بن جهم عن زر بن حبيش عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا { من لبس ثوب شهرة أعرض الله عنه حتى يضعه متى وضعه } ; ولأن لباس الشهرة ربما يزري بصاحبه وينقص مروءته .

وفي الغنية لسيدنا الشيخ عبد القادر قدس الله روحه : من اللباس المنزه عنه كل لبسة يكون بها مشتهرا بين الناس كالخروج عن عادة بلده وعشيرته ، فينبغي أن يلبس ما يلبسون لئلا يشار إليه بالأصابع ، ويكون ذلك سببا إلى حملهم على غيبته فيشركهم في إثم الغيبة له انتهى .

قال في الآداب الكبرى : ويدخل في الشهرة خلاف المعتاد من لبس شيئا مقلوبا أو محولا كجبة وقباء كما يفعله بعض أهل الجفاء والسخافة والانخلاع .

وفي الرعاية الكبرى : يكره في غير حرب إسبال بعض لباسه فخرا وخيلاء ، وبطرا وشهرة وخلاف زي بلده بلا عذر . وقيل يحرم ذلك ، وهو أظهر . انتهى . [ ص: 163 ] والقول بتحريم ذلك خيلاء ظاهر كلام الإمام أحمد رضي الله عنه ، وهو المذهب قطع به غير واحد ، وقطع به في الإقناع ، والمنتهى وغيرهما ، وعبارة الإقناع : ويحرم ، وهو كبيرة إسبال شيء من ثيابه ، ولو عمامة خيلاء في غير حرب ، فإن أسبل ثوبه لحاجة كستر ساق قبيح من غير خيلاء أبيح ، ما لم يرد التدليس على النساء ، ومثله قصيرة اتخذت رجلين من خشب فلم تعرف انتهى .

ونص الإمام أحمد رضي الله عنه على أنه لا يحرم ثوب الشهرة ، فإنه رأى رجلا لابسا بردا مخططا بياضا وسوادا ، فقال : ضع هذا ، والبس لباس أهل بلدك ، وقال : ليس هو بحرام ، ولو كنت بمكة ، أو المدينة لم أعب عليك . قال الناظم رحمه الله : لأنه لباسهم هناك انتهى .

وفي الفروع : وتكره شهرة وخلاف زي بلده ، وقيل يحرم ونصه لا . قال شيخنا ، يعني به شيخ الإسلام : تحرم شهرة ، وهو ما قصد به الارتفاع وإظهار التواضع كما كان السلف يكرهون الشهرتين من اللباس المرتفع ، والمنخفض ; ولهذا في الخبر { من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة } فعاقبه بنقيض قصده . قال : وظاهر كلام غيره يكره ، وليس بمراد إن شاء الله ، فإن هذا من الرياء انتهى .

وقال ابن عبد البر : قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : من لبس ثوب شهرة أعرض الله عنه ، وإن كان وليا . وتقدم من حديث أبي ذر مرفوعا معناه ، وقال ابن عبد البر أيضا : كان يقال : كل من الطعام ما اشتهيت ، والبس من الثياب ما اشتهى الناس . وعقد ذلك بعض الشعراء في قوله :

إن العيون رمتك مذ فاجأتها وعليك من شهر اللباس لباس     أما الطعام فكل لنفسك ما اشتهت
واجعل لباسك ما اشتهاه الناس

وكان بكر بن عبد الله المزني يقول : البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية .

وكان الحسن يقول : إن قوما جعلوا خشوعهم في لباسهم ، وكبرهم في صدورهم وشهروا أنفسهم بلباس الصوف ، حتى إن أحدهم بما يلبس من الصوف أعظم كبرا من صاحب المطرف بمطرفه .

ومن هذا قول بعضهم - وقد أحسن - [ ص: 164 ]

تصوف فازدهى بالصوف جهلا     وبعض الناس يلبسه مجانه
يريد مهانة ويريد كبرا     وليس الكبر من شأن المهانه
تصنع كي يقال له أمين     ما يغني التصنع للأمانه
ولم يرد الإله بها ولكن     أراد بها الطريق إلى الخيانه

وقال سفيان بن حسين : قلت لإياس بن معاوية : ما المروءة ؟ قال : أما في بلدك فالتقوى ، وأما حيث لا تعرف فاللباس .

وروى بقية عن الأوزاعي أنه قال : بلغني أن لباس الصوف في السفر سنة وفي الحضر بدعة

التالي السابق


الخدمات العلمية