الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 551 ] إعراب سورة النساء

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      آ . (1) قوله تعالى : من نفس : متعلق بـ "خلقكم " فهو في محل نصب . و "من " لابتداء الغاية . وكذلك "منها زوجها " ، و " وبث منهما " . وابن أبي عبلة : "واحد " من غير تاء ، وله وجهان ، أحدهما : مراعاة المعنى ، لأن المراد بالنفس آدم عليه السلام . والثاني : أن النفس تذكر وتؤنث ، وعليه :


                                                                                                                                                                                                                                      1524 - ثلاثة أنفس وثلاث ذود ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      قوله : "وخلق " فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه عطف على معنى "واحدة " لما فيه من معنى الفعل كأنه قيل : "من نفس وحدت " أي انفردت ، يقال : "وحد ، يحد ، وحدا وحدة " ، بمعنى انفرد . الثاني : أنه عطف على محذوف ، قال الزمخشري : "كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها - أو ابتدأها - وخلق منها وإنما حذف لدلالة المعنى عليه ، والمعنى : شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها " بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقهم منها . وإنما حمل الزمخشري والقائل الذي قبله على ذلك مراعاة الترتيب الوجودي ؛ لأن خلق [ ص: 552 ] حواء - وهي المعبر عنها بالزوج - قبل خلقنا ، ولا حاجة إلى ذلك ، لأن الواو لا تقتضي ترتيبا على الصحيح .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أنه عطف على "خلقكم " فهو داخل في حيز الصلة ، والواو لا يبالى بها ، إذ لا تقتضي ترتيبا . إلا أن الزمخشري خص هذه الوجه بكون الخطاب في يا أيها الناس لمعاصري الرسول عليه السلام فإنه قال : "والثاني : أن يعطف على " خلقكم "ويكون الخطاب للذين بعث إليهم الرسول ، والمعنى : خلقكم من نفس آدم ، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه ، وخلق منها أمكم حواء " . فظاهر هذا خصوصية الوجه الثاني بكون الخطاب للمعاصرين ، وفيه نظر . وقدر بعضهم مضافا في "منها " أي : "من جنسها زوجها " ، وهذا عند من يرى أن حواء لم تخلق من آدم ، وإنما خلقت من طينة فضلت من طينة آدم ، وهذا قول مرغوب عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ : "وخالق وباث " بلفظ اسم الفاعل . وخرجه الزمخشري على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : وهو خالق وباث . يقال : بث وأبث بمعنى "فرق " ثلاثيا ورباعيا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : كثيرا فيه وجهان ، أظهرهما : أنه نعت لـ "رجالا " قال أبو البقاء : "ولم يؤنثه حملا على المعنى ، لأن " رجالا "عدد أو جنس أو جمع ، كما ذكر الفعل المسند إلى جماعة المؤنث كقوله : وقال نسوة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه نعت لمصدر تقديره : وبث منهما بثا كثيرا . وقد تقدم أن [ ص: 553 ] مذهب سيبويه في مثله النصب على الحال . فإن قيل : لم خص الرجال بوصف الكثرة دون النساء ؟ ففيه جوابان ، أحدهما : أنه حذف صفتهن لدلالة ما قبلها عليها [أي ] : ونساء كثيرة . والثاني أن الرجال لشهرتهم يناسبهم ذلك بخلاف النساء فإن الأليق بهن الخمول والإخفاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : تساءلون قرأ الكوفيون : "تساءلون " بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين تخفيفا ، والأصل : تتساءلون ، وقد تقدم لنا الخلاف : هل المحذوف الأولى أو الثانية ؟ وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين لأنها مقاربتها في الهمس ، ولهذا تبدل من السين قالوا : "ست " والأصل : "سدس " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عبد الله : "تسألون " من سأل الثلاثي . وقرئ "تسلون " بنقل حركة الهمزة على السين .

                                                                                                                                                                                                                                      و "تساءلون " على التفاعل فيه وجهان ، أحدهما : المشاركة في السؤال . والثاني : أنه بمعنى فعل ، ويدل عليه قراءة عبد الله . قال أبو البقاء : "ودخل حرف الجر في المفعول لأن المعنى : تتحالفون " يعني : أن الأصل كان تعدية "تسألون " إلى الضمير بنفسه ، فلما ضمن معنى "تتحالفون " عدي تعديته .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 554 ] قوله : والأرحام الجمهور على نصب ميم "والأرحام " وفيه وجهان ، أحدهما : أنه عطف على لفظ الجلالة أي : واتقوا الأرحام أي : لا تقطعوها . وقدر بعضهم مضافا أي : قطع الأرحام ، ويقال : "إن هذا في الحقيقة من عطف الخاص على العام ، وذلك أن معنى اتقوا الله : اتقوا مخالفته ، وقطع الأرحام مندرج فيها " . والثاني : أنه معطوف على محل المجرور في "به " نحو : مررت بزيد وعمرا ، لما لم يشركه في الإتباع على اللفظ تبعه على الموضع . ويؤيد هذا قراءة عبد الله : "وبالأرحام " . وقال أبو البقاء : "تعظمونه والأرحام ، لأن الحلف به تعظيم له " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ حمزة "والأرحام " بالجر ، وفيها قولان ، أحدهما : أنه عطف على الضمير المجرور في "به " من غير إعادة الجار ، وهذا لا يجيزه البصريون ، وقد تقدم تحقيق القول في هذه المسألة ، وأن فيها ثلاثة مذاهب ، واحتجاج كل فريق في قوله تعالى : وكفر به والمسجد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد طعن جماعة على هذه القراءة كالزجاج وغيره ، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جواز ذلك أنه قال : "حدثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم قال : " والأرحام " - بخفض الأرحام - هو كقولهم : " أسألك بالله والرحم "قال : " وهذا قبيح "لأن العرب لا ترد مخفوضا على مخفوض قد كني عنه " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 555 ] والثاني : أنه ليس معطوفا على الضمير المجرور بل الواو للقسم وهو خفض بحرف القسم مقسم به ، وجواب القسم : " إن الله كان عليكم رقيبا " . وضعف هذا بوجهين ، أحدهما : أن قراءتي النصب وإظهار حرف الجر في "بالأرحام " يمنعان من ذلك ، والأصل توافق القراءات . والثاني : أنه نهي أن يحلف بغير الله تعالى والأحاديث مصرحة بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقدر بعضهم مضافا فرارا من ذلك فقال : "تقديره : ورب الأرحام : قال أبو البقاء : وهذا قد أغنى عنه ما قبله " يعني الحلف بالله تعالى . ولقائل [أن يقول : ] "إن لله تعالى أن يقسم بما شاء كما أقسم بمخلوقاته كالشمس والنجم والليل ، وإن كنا نحن منهيين عن ذلك " ، إلا أن المقصود من حيث المعنى ليس على القسم ، فالأولى حمل هذه القراءة على العطف على الضمير ، ولا التفات إلى طعن من طعن فيها ، وحمزة بالرتبة السنية المانعة له من نقل قراءة ضعيفة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عبد الله أيضا : "والأرحام " رفعا وهو على الابتداء ، والخبر محذوف فقدره ابن عطية : "أهل أن توصل " ، وقدره الزمخشري : و "الأرحام مما يتقى ، أو : مما يتساءل به " ، وهذا أحسن للدلالة اللفظية والمعنوية ، بخلاف الأول ، فإنه للدلالة المعنوية فقط ، وقدره أبو البقاء : "والأرحام محترمة " أي : واجب حرمتها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 556 ] وقوله : إن الله كان عليكم رقيبا جار مجرى التعليل . والرقيب : فعيل للمبالغة من رقب يرقب رقبا ورقوبا ورقبانا إذا أحد النظر لأمر يريد تحقيقه ، واستعماله في صفات الله تعالى بمعنى الحفيظ ، قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1525 - كمقاعد الرقباء للضرباء أيديهم نواهد



                                                                                                                                                                                                                                      والرقيب أيضا : ضرب من الحيات . والرقيب : السهم الثالث من سهام الميسر وقد تقدمت في البقرة . والارتقاب : الانتظار .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية