الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء


[ ص: 74 ] المقدمة في ترجيح مذهب السلف على غيره من سائر المذاهب

وقد قدمنا ما يفيد أن مذهب السلف ، وما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضوان الله عليهم - ومن بعدهم من أئمة الدين والديانة ، والمعرفة والصيانة ، والسنة والأمانة ، وإنما نسب لإمامنا الإمام أحمد - رضي الله عنه ; لأنه انتهى إليه من السنة ، ونصوص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما انتهى إلى غيره ، وابتلي بالمحنة والرد على أهل البدع أكثر من غيره ، فصار إماما في السنة أظهر من غيره ، ولهذا قال بعض شيوخ المغاربة : المذهب لمالك والشافعي وغيرهما من الأئمة ، والظهور للإمام أحمد بن حنبل . فالذي عليه أحمد عليه جميع الأئمة ، وإن زاد بعضهم على بعض في العلم والبيان ، وإظهار الحق ، ودفع الباطل .


( ( اعلم هديت أنه جاء الخبر عن النبي المقتفى خير البشر ) )      ( ( بأن ذي الأمة سوف تفترق
بضعا وسبعين اعتقادا والمحق ) )      ( ( ما كان في نهج النبي المصطفى
وصحبه من غير زيغ وجفا ) )



( ( اعلم ) ) فعل أمر من العلم ، وهو حكم الذهن الجازم المطابق للواقع ، أي كن متهيئا ومتفهما لإدراك ما يلقى إليك من العلوم ، وما في ضمن المنثور من كلامي والمنظوم ، ( هديت ) جملة معترضة دعائية من الهداية ، وهي الدلالة ، والمراد بها هنا الدلالة الموصلة إلى المطلوب بقرينة المقام ، ( أنه ) أي : الشأن والأمر ، ( جاء الخبر ) يعني الحديث المعول عليه في القديم والحديث ، ( عن النبي ) المصطفى والحبيب ، ( المقتفى ) أي المختص المتبع ، ومن أسمائه - صلى الله عليه وسلم - المقفى ، قال في النهاية : هو المولي الذاهب وقد قفى يقفى فهو مقف ، يعني أنه آخر الأنبياء المتبع لهم ، فإذا قفى فلا نبي بعده . انتهى .

وقال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه " زاد المعاد في هدي خير العباد " : المقفى الذي قفى على آثار من تقدمه من الرسل ، فقفى الله به على آثار من سبقه منهم ، وهذه اللفظة مشتقة من القفو ، قفاه يقفوه إذا تأخر عنه ، ( خير البشر ) بل خير جميع الخلق من الإنس والجن والملائكة ، فهو سيد العالم وصفوة بني آدم ، وأفضل خلق الله ، وخير مخلوقات الله - صلى الله عليه [ ص: 75 ] وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين ، ( بأن ذي ) أي هذه ( الأمة ) المحمدية ، والملة الأحمدية ( سوف ) أي سـ ( تفترق ) فيما بعد ( بضعا ) أي إلى بضع ( وسبعين ) فرقة ، والبضع في العدد بالكسر - وقد تفتح - ما بين الثلاث إلى التسع ، وإذا جاوزت لفظ العشر ذهب البضع ، فلا يقال بضع وعشرون ، أو يقال ذلك كما في القاموس ، وعلى هذا القول جرينا في النظم ، فيقال : بضعة وعشرون رجلا ، وبضع وعشرون امرأة ، ولا يعكس ( اعتقادا ) أي افتراقهم لأجل الاعتقاد ، فهو مفعول لأجله ، وهي ضالة منحرفة عن الصراط المستقيم ، والنهج القويم ( و ) إنما ( المحق ) من جميعها طائفة واحدة ، وهي ( ما كان ) سيرها واعتقادها ونهجها واعتمادها ( في نهج ) أي منهج ( النبي المصطفى ) أي صفوة خلق الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ويقال : إن من أسمائه - صلى الله عليه وسلم - المصطفى ، وهو مشهور ملهوج به ، وهو صادق عليه ولائق به ، قال القاضي عياض في الشفاء بعد أن ذكر المأثور من أسمائه ما لفظه : وجرى منها ، أي ألقابه وسماته في كتب الله المتقدمة ، وكتب أنبيائه ، وأحاديث رسوله ، وإطلاق الأمة جملة شافية كتسميته بالمصطفى ، وبالمجتبى ، وبالحبيب ، والله أعلم . ( و ) من كان منهم في نهج ( صحبه ) رضوان الله عليهم ; أي من كان على منهاجهم ، وسار بسيرهم ، من اقتفاء الرسول في اتباع المنقول ( من غير زيغ ) أي من غير ميل ولا انحراف ولا شك ولا انصراف ، ( و ) من غير ( جفا ) بالجيم أي من غير تجاف عن هديهم ، وإزالة عن نهجهم ، والجفاء نقيض الصلة ، ويقصر ويصح أن يقرأ بالخاء المعجمة ، ويكون المعنى من غير ميل ، ولا كتم وستر ، والخافية ضد العلانية ، والمشار إليه في البيتين هو ما رواه سيدنا الإمام أحمد من حديث معاوية رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ، ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة . ورواه أبو داود ، وزاد فيه : ( وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ) ، قوله : الكلب بفتح اللام ، قال الخطابي : هو داء يعرض للإنسان من عضة [ ص: 76 ] ( الكلب ) . وقال : وعلامة ذلك في الكلب أن تحمر عيناه ، ولا يزال يدخل ذنبه بين رجليه ، فإذا رأى إنسانا ساوره . وفي رواية : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة ، كلهم في النار إلا فرقة واحدة " . فقيل له : من هم يا رسول الله ؟ يعني الفرقة الناجية ، فقال : " هو من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " ، وفي رواية : " ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة ، كلهم في النار إلا فرقة واحدة ، وهي ما كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي " . قال بعض العلماء : هم يعني الفرقة الناجية ، أهل الحديث ، يعني الأثرية والأشعرية والماتريدية ، قلت : ولفظ الحديث يعني قوله إلا فرقة واحدة ينافي التعدد ، ولذا قلت :

( وليس هذا النص جزما يعتبر في فرقة إلا على أهل الأثر )

( وليس هذا النص ) المذكور عن منبع النور ومصباح الديجور ( جزما ) يحتمل المصدرية ، أي أجزم به جزما ، أو أنه مفعول لأجله ، أي من جهة الجزم واليقين ( يعتبر ) أي يستدل به ويوافق ( في فرقة ) أي لا ينطق ويصدق على فرقة من الثلاث وسبعين فرقة ( إلا على ) فرقة ( أهل الأثر ) وماعداهم من سائر الفرق قد حكموا العقول ، وخالفوا المنقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم . والواجب أن يتلقى بالقبول ، فأنى يصدق عليهم الخبر ، أو ينطبق عليهم الأثر .

التالي السابق


الخدمات العلمية