الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان فرائض الله تعالى

( أخبرنا الربيع بن سليمان ) قال ( قال الشافعي ) فرض الله عز وجل في كتابه من وجهين : أحدهما أبان فيه كيف فرض بعضها حتى استغنى فيه بالتنزيل عن التأويل وعن الخبر

، والآخر أنه أحكم فرضه بكتابه وبين كيف هي على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ثم أثبت فرض ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه بقوله عز وجل { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وبقوله تبارك اسمه { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } إلى تسليما وبقوله عز وجل { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } مع غير آية في القرآن بهذا المعنى فمن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبفرض الله عز وجل قبل ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى فالفرائض تجتمع في أنها ثابتة على ما فرضت عليه

، ثم تفرقت شرائعها بما فرق الله عز وجل ثم رسوله صلى الله عليه وسلم فنفرق بين ما فرق منها ونجمع بين ما جمع منها فلا يقاس فرع شريعة على غيرها وأول ما نبدأ به من الشرائع الصلاة فنحن نجدها ثابتة على البالغين غير المغلوبين على عقولهم ساقطة عن الحيض أيام حيضهن ، ثم نجد الفريضة منها والنافلة مجتمعتين في أن لا يجوز الدخول في واحدة منهما إلا بطهارة الماء في الحضر والسفر ما كان موجودا أو التيمم في السفر وإذا كان الماء معدوما وفي الحضر أو كان المرء مريضا لا يطيق الوضوء لخوف تلف في العضو أو زيادة في العلة ونجدهما مجتمعتين في أن لا يصليا معا إلا متوجهين إلى الكعبة ما كانا في الحضر ونازلين بالأرض ونجدهما وإذا كانا مسافرين تفترق حالهما فيكون للمصلي تطوعا إن كان راكبا أن يتوجه حيث توجهت به دابته يومئ إيماء ولا نجد ذلك للمصلي فريضة بحال أبدا إلا في حال واحدة من الخوف ونجد المصلي صلاة تجب عليه إذا كان يطيق ويمكنه القيام لم تجز عنه الصلاة إلا قائما ونجد المتنفل يجوز له أن يصلي جالسا ونجد المصلي فريضة يؤديها في الوقت قائما ، فإن لم يقدر أداها جالسا ، فإن لم يقدر أداها مضطجعا ساجدا إن قدر وموميا إن لم يقدر .

ونجد الزكاة فرضا تجامع الصلاة وتخالفها ولا نجد الزكاة تكون إلا ثابتة أو ساقطة فإذا ثبتت لم يكن فيها إلا أداؤها مما وجبت في جميع الحالات مستويا ليست تختلف بعذر كما اختلفت تأدية الصلاة قائما أو قاعدا ونجد المرء إذا كان له مال حاضر تجب فيه الزكاة وكان عليه دين مثله زالت عنه الزكاة حتى لا يكون عليه منها شيء في تلك الحال والصلاة لا تزول في حال يؤديها كما أطاقها ( قال الربيع ) وللشافعي قول آخر إذا كان عليه دين عشرين دينارا وله مثلها فعليه الزكاة يؤديها من قبل أن الله عز وجل قال { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } فلما كانت هذه العشرون لو وهبها جازت هبته ولو تصدق بها جازت صدقته ولو تلفت كانت منه فلما كانت أحكامها كلها تدل على أنها مال من ماله وجبت عليه فيها الزكاة لقول الله تبارك وتعالى { خذ من أموالهم } الآية ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى ونجد المرأة ذات المال تزول عنها الصلاة في أيام حيضها ولا تزول عنها الزكاة ، وكذلك الصبي والمغلوب على عقله .

[ ص: 302 ] باب الصوم

( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى ونجد الصوم فرضا بوقت كما أن الصلاة فرض بوقت ثم نجد الصوم مرخصا فيه للمسافر أن يدعه وهو مطيق له في وقته

، ثم يقضيه بعد وقته وليس هكذا الصلاة لا يرخص في تأخير الصلاة عن وقتها إلى يوم غيره ولا يرخص له في أن يقصر من الصوم شيئا كما يرخص في أن يقصر من الصلاة ولا يكون صومه مختلفا باختلاف حالاته في المرض والصحة ونجده إذا جامع في صيام شهر رمضان وهو واجد أعتق وإذا جامع في الحج نحر بدنة وإن جامع في الصلاة استغفر ولم تكن عليه كفارة والجماع في هذه الحالات كلها محرم

، ثم يكون جماع كثير محرم لا يكون في شيء منه كفارة ثم نجده يجامع في صوم واجب عليه في قضاء شهر رمضان أو كفارة قتل أو ظهار فلا يكون عليه كفارة ويكون عليه البدل في هذا كله ونجد المغمى عليه والحائض لا صوم عليهما ولا صلاة فإذا أفاق المغمى عليه وطهرت الحائض فعليهما قضاء ما مضى من الصوم في أيام إغماء هذا وحيض هذه وليس على الحائض قضاء الصلاة في قول أحد ولا على المغمى عليه قضاء الصلاة في قولنا .

ووجدت الحج فرضا على خاص وهو من وجد إليه سبيلا

، ثم وجدت الحج يجامع الصلاة في شيء ويخالفها في غيره فأما ما يخالفها فيه فإن الصلاة يحل له فيها أن يكون لابسا للثياب ، ويحرم على الحاج ، ويحل للحاج أن يكون متكلما عامدا ، ولا يحل ذلك للمصلي ، ويفسد المرء صلاته ، فلا يكون له أن يمضي فيها ويكون عليه أن يستأنف صلاة غيرها بدلا منها ولا يكفر ويفسد حجه فيمضي فيه فاسدا لا يكون له غير ذلك

، ثم يبدله ويفتدي والحج في وقت والصلاة في وقت ، فإن أخطأ رجل في وقته لم يجز عنه الحج

، ثم وجدتهما مأمورين بأن يدخل المصلي في وقت ، فإن دخل المصلي قبل الوقت لم تجز عنه صلاته وإن دخل الحاج قبل الوقت أجزأ عنه حجه ووجدت للصلاة أولا وآخرا فوجدت أولها التكبير وآخرها التسليم ووجدته إذا عمل ما يفسدها فيما بين أولها وآخرها أفسدها كلها ووجدت للحج أولا وآخرا ثم أجزأ بعده فأوله الإحرام ثم آخر أجزائه الرمي والحلاق والنحر فإذا فعل هذا خرج من جميع إحرامه في قولنا ودلالة السنة إلا من النساء خاصة وفي قول غيرنا إلا من النساء والطيب والصيد

، ثم وجدته في هذه الحال إذا أصاب النساء قبل يحللن له نحر بدنة ولم يكن مفسدا لحجه وإن لم يصب النساء حتى يطوف حل له النساء وكل شيء حرمه عليه الحج معكوفا على نسكه من حجه من البيتوتة بمنى ورمي الجمار والوداع يعمل هذا حلالا خارجا من إحرام الحج وهو لا يعمل شيئا في الصلاة إلا وإحرام الصلاة قائم عليه ووجدته مأمورا في الحج بأشياء إذا تركها كان عليه فيها البدل بالكفارة من الدماء والصوم والصدقة وحجة ومأمورا في الصلاة بأشياء لا تعدو واحدا من وجهين إما أن يكون تاركا لشيء منها فتفسد صلاته ولا تجزيه كفارة ولا غيرها إلا استئناف الصلاة أو يكون إذا ترك شيئا مأمورا به من غير صلب الصلاة كان تاركا لفضل والصلاة مجزية عنه ولا كفارة عليه

، ثم للحج وقت آخر وهو الطواف بالبيت بعد النحر الذي يحل له به النساء

، ثم لهذا آخر وهو النفر من منى

، ثم الوداع وهو مخير في النفر إن أحب تعجل في يومين وإن أحب تأخر .

أخبرنا الربيع بن سليمان قال ( قال الشافعي ) أخبرنا ابن عيينة بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا يمسكن الناس علي بشيء فإني لا أحل لهم إلا ما أحل الله ولا أحرم عليهم إلا ما حرم الله } ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى هذا منقطع ونحن نعرف فقه طاوس ولو ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين فيه أنه على ما وصفت إن شاء الله تعالى قال { لا يمسكن الناس علي بشيء } ولم يقل لا تمسكوا عني بل قد أمر أن يمسك عنه وأمر الله عز وجل بذلك ( قال الشافعي ) أخبرنا ابن عيينة [ ص: 303 ] عن أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا أعرفن ما جاء أحدكم الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه وهو متكئ على أريكته فيقول ما ندري . هذا وما وجدنا في كتاب الله عز وجل اتبعناه }

وقد أمرنا باتباع ما أمرنا واجتناب ما نهى عنه وفرض الله ذلك في كتابه على خليقته وما في أيدي الناس من هذا إلا تمسكوا به عن الله تبارك وتعالى ، ثم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عن دلالته ولكن قوله إن كان قاله { لا يمسكن الناس علي بشيء } يدل على أن رسوله صلى الله عليه وسلم إذ كان بموضع القدوة فقد كانت له خواص أبيح له فيها ما لم يبح للناس وحرم عليه منها ما لم يحرم على الناس فقال { لا يمسكن الناس علي بشيء } من الذي لي أو علي دونهم ، فإن كان علي ولي دونهم لا يمسكن به وذلك مثل أن الله عز وجل إذا أحل له من عدد النساء ما شاء وأن يستنكح المرأة إذا وهبت نفسها له قال الله تعالى { خالصة لك من دون المؤمنين } فلم يكن لأحد أن يقول قد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أكثر من أربع ونكح رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة بغير مهر وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صفيا من المغانم وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله عز وجل قد بين في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن ذلك له دونهم وفرض الله تعالى عليه أن يخير أزواجه في المقام معه والفراق فلم يكن لأحد أن يقول علي أن أخير امرأتي على ما فرض الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم إن كان قاله { لا يمسكن الناس علي بشيء فإني لا أحل لهم إلا ما أحل الله ولا أحرم عليهم إلا ما حرم الله } ، وكذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك أمره وافترض عليه أن يتبع ما أوحي إليه ونشهد أن قد اتبعه فما لم يكن فيه وحي فقد فرض الله عز وجل في الوحي اتباع سنته فيه فمن قبل عنه فإنما قبل بفرض الله عز وجل قال الله تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وقال عز وعلا { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }

وأخبرنا عن صدقة بن يسار عن عمر بن عبد العزيز سأل بالمدينة فاجتمع له على أنه لا يبين حمل في أقل من ثلاثة أشهر ( قال الشافعي ) إن الله عز وجل وضع نبيه صلى الله عليه وسلم من كتابه ودينه بالموضع الذي أبان في كتابه فالفرض على خلقه أن يكونوا عالمين بأنه لا يقول فيما أنزل الله عليه إلا بما أنزل عليه وأنه لا يخالف كتاب الله وأنه بين عن الله عز وعلا معنى ما أراد الله وبيان ذلك في كتاب الله عز وجل قال الله تبارك وتعالى { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي } وقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم { اتبع ما أوحي إليك من ربك } وقال مثل هذا في غير آية وقال عز وجل { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال { فلا وربك لا يؤمنون } الآية ( قال الشافعي ) أخبرنا الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { ما تركت شيئا مما أمركم الله تعالى به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه } ( أخبرنا الربيع ) قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا سفيان بن عيينة عن سالم أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه } ومثل هذا إن الله عز وجل فرض الصلاة والزكاة والحج جملة في كتابه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى ما أراد الله تعالى من عدد الصلاة ومواقيتها وعدد ركوعها وسجودها وسنن الحج وما يعمل المرء منه [ ص: 304 ] ويجتنب وأي المال تؤخذ منه الزكاة وكم ووقت ما تؤخذ منه وقال الله عز وجل { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } وقال عز ذكره { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } فلو صرنا إلى ظاهر القرآن قطعنا من لزمه اسم سرقة وضربنا كل من لزمه اسم زنا مائة جلدة ولما قطع النبي في ربع دينار ولم يقطع في أقل منه ورجم الحرين الثيبين ولم يجلدهما استدللنا على أن الله عز وجل إنما أراد بالقطع والجلد بعض السراق دون بعض وبعض الزناة دون بعض ومثل هذا لا يخالفه المسح على الخفين قال الله عز وجل { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين } فلما مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الخفين استدللنا على أن فرض الله عز وجل غسل القدمين إنما هو على بعض المتوضئين دون بعض وأن المسح لمن أدخل رجليه في الخفين بكمال الطهارة استدلالا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يمسح والفرض عليه غسل القدم كما لا يدرأ القطع عن بعض السراق وجلد المائة عن بعض الزناة والفرض عليه أن يجلد ويقطع ، فإن ذهب ذاهب إلى أنه قد يروى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سبق الكتاب المسح على الخفين فالمائدة نزلت قبل المسح المثبت بالحجاز في غزاة تبوك والمائدة قبله ، فإن زعم أنه كان فرض وضوء قبل الوضوء الذي مسح فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض وضوء بعده فنسخ المسح فليأتنا بفرض وضوءين في القرآن فإنا لا نعلم فرض الوضوء إلا واحدا وإن زعم أنه مسح قبل يفرض عليه الوضوء فقد زعم أن الصلاة بلا وضوء ولا نعلمها كانت قط إلا بوضوء فأي كتاب سبق المسح على الخفين المسح كما وصفنا من الاستدلال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان جميع ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرائض الله تبارك وتعالى مثل ما وصفنا من السارق والزاني وغيرهما ( قال الشافعي ) ولا تكون سنة أبدا تخالف القرآن .

والله تعالى الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية