الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              5257 (39)

                                                                                              كتاب الزهد

                                                                                              (1) باب

                                                                                              هوان الدنيا على الله تعالى وأنها سجن المؤمن

                                                                                              [ 2687 ] عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلا من بعض العالية والناس كنفتيه ، فمر بجدي أسك ميت ، فتناوله ، فأخذ بأذنه ثم قال : أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء ، وما نصنع به ؟ قال : أتحبون أنه لكم ؟ قالوا : والله لو كان حيا كان عيبا فيه ; لأنه أسك ، فكيف وهو ميت ؟ قال : فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم .

                                                                                              رواه أحمد (3 \ 365) ، ومسلم (2957) (2) .

                                                                                              [ ص: 107 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 107 ] (39) كتاب الزهد

                                                                                              (1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6) باب : هوان الدنيا على الله تعالى ، وأنها سجن المؤمن

                                                                                              (قوله : والناس كنفتيه ) أي : بجنبتيه ، ويروى : كتفيه : تثنية كتف ، وهو منصوب على الظرف ، وهو خبر المبتدأ .

                                                                                              و (قوله : بجدي أسك ) أي : صغير الأذنين ، ضيق صماخهما ، وقيل : هو الذي لا يسمع .

                                                                                              [ ص: 108 ] و (قوله : " والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ") الدنيا : وزنها فعلى ، وألفها للتأنيث ، وهي من الدنو بمعنى القرب ، وهي صفة لموصوف محذوف ، كما قال تعالى : وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [ آل عمران : 185 ] غير أنه قد كثر استعمالها استعمال الأسماء ، فاستغني عن موصوفها ، كما جاء في هذا الحديث . والمراد : الدار الدنيا ، أو الحياة الدنيا التي تقابلها الدار الأخرى ، أو الحياة الأخرى ، ومعنى هوان الدنيا على الله : أن الله تعالى لم يجعلها مقصودة لنفسها ; بل : جعلها طريقا موصلة إلى ما هو المقصود لنفسه ، وأنه لم يجعلها دار إقامة ولا جزاء ، وإنما جعلها دار رحلة وبلاء ، وأنه ملكها في الغالب الكفرة والجهال ، وحماها الأنبياء والأولياء والأبدال . وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فقال : " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء " ، وحسبك بها هوانا أن الله قد صغرها وحقرها ، وذمها ، وأبغضها وأبغض أهلها ومحبيها ، ولم يرض لعاقل فيها إلا بالتزود منها ، والتأهب للارتحال عنها ، ويكفيك من ذلك ما رواه أبو عيسى الترمذي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها ، إلا ذكر الله وما والاه ، أو عالم أو متعلم " .

                                                                                              [ ص: 109 ] رواه من حديث أبي هريرة ، وقال : حديث حسن غريب . ولا يفهم من هذا الحديث إباحة لعن الدنيا وسبها مطلقا ; لما رويناه من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسبوا الدنيا ، فنعمت مطية المؤمن ، عليها يبلغ الخير ، وبها ينجو من الشر ، إنه إذا قال العبد : لعن الله الدنيا ، قالت الدنيا : لعن الله أعصانا لربه " . خرجه الشريف أبو القاسم زيد بن عبد الله بن مسعود الهاشمي .

                                                                                              وهذا يقتضي المنع من سب الدنيا ولعنها ، ووجه الجمع بينهما : أن المباح لعنه من الدنيا ما كان منها مبعدا عن الله ، وشاغلا عنه ، كما قال بعض السلف : كل ما شغلك عن الله تعالى من مال وولد فهو عليك مشؤوم ، وهو الذي نبه الله على ذمه بقوله تعالى : أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد [ الحديد : 20 ] وأما ما كان من الدنيا يقرب إلى الله تعالى ، ويعين على عبادة الله تعالى ، فهو المحمود بكل لسان ، والمحبوب لكل إنسان ، فمثل هذا لا يسب ، بل يرغب فيه ، ويحب ، وإليه الإشارة بالاستثناء حيث قال : " إلا ذكر الله ، وما والاه ، أو عالم أو متعلم " وهو المصرح به في قوله : " فإنها نعمت مطية المؤمن ، عليها يبلغ الخير ، وبها ينجو من الشر " وبهذا يرتفع التعارض بين الحديثين . والله أعلم .




                                                                                              الخدمات العلمية