الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الحادي والثمانون الفرق بين قاعدة الرخصة وبين قاعدة إزالة النجاسة ) وذلك أن جماعة من العلماء قالوا إزالة النجاسة رخصة بسبب أن السبب في تنجيس الطاهر ملاقاته للنجس إجماعا فإذا صببنا الماء على النجاسة لنزيلها من الإبريق مثلا فالجزء الواصل إلى النجاسة المتصل بها تنجس لملاقاته النجاسة كما تقدم حكاية الإجماع في القاعدة وإذا تنجس الجزء الملاقي للنجاسة تنجس ذلك الجزء الذي يليه وتنجس الجزء الثاني للثالث والثالث للرابع والرابع للخامس وكذلك حتى ينجس الماء الذي داخل الإبريق بل ينجس ماء البحر المالح إذا وضعنا النجاسة في طرفه والسر في ذلك كله ملاقاة النجس للطاهر وحيث قضى الشرع بأن النجاسة تزول وأن الماء لم يفسد مطلقا كان ذلك على خلاف هذه القاعدة فكان رخصة من صاحب الشرع وهذا كلام متين قوي لم أر أحدا تعرض للجواب عنه .

والجواب عنه أن إزالة النجاسة ليس من باب الرخصة وذلك أن الله تعالى لم يقض على الأعيان بأنها نجسة ولا متنجسة بمجرد كونها جواهر ولا أجساما إجماعا بل لأجل أعراض خاصة قامت بتلك الأجسام من لون خاص وكيفية خاصة معلومة في العادة فإذا انتفت تلك الكيفية وتلك الأعراض انتفى الحكم لانتفاء موجبه وانتفاء الحكم الشرعي لانتفاء سببه ليس من باب الرخص إجماعا وعلى هذه القاعدة يبطل السؤال بسبب أنا نعلم بالضرورة أن الأعراض الخاصة والكيفية الخاصة اللتين قضى الشرع لأجلها بالتنجيس ليسا موجودين في جميع أجزاء ماء الإبريق ولا في جميع أجزاء ماء البحر إذا [ ص: 114 ] وضعنا النجاسة في طرفه بل الأجزاء بعيدة من محل النجاسة ليس فيها شيء من ذلك قطعا فلا يكون القضاء بتطهير الأجزاء البعيدة رخصة بل قضاء بالحكم لانتفاء سببه وليس هو من باب الرخص وكذلك إذا توالى الصب والغسل على الثوب المتنجس فقطع بعدم تلك الصفات الموجبة لكون العين نجسة أو متنجسة فوجب أن يزول حكم التنجيس لزوال سببه كما يزول وجوب الزكاة لعدم النصاب ويزول وجوب الصوم في رمضان لزوال رمضان وغير ذلك من الأحكام في الشريعة التي لا يسمى شيء منها رخصة فكذلك ها هنا فظهر أن ما قالوه من أن إزالة النجاسة من باب الرخص لا حقيقة له بل هي من باب العزائم على وفق القواعد لا على خلافها

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الحادي والثمانون بين قاعدة الرخصة وبين قاعدة إزالة النجاسة ) اعلم أن الرخصة كما في موافقات الشاطبي لها في الشرع إطلاقات أربعة الإطلاق الأول على ما شرع من الأحكام لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه فقيد لعذر شاق مخرج لما كان من أصل الحاجيات الكليات مستثنى من أصل مشروع لعذر مجرد الحاجة من غير مشقة موجودة كشرعية القراض فإنه لعذر في الأصل وهو عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض ويجوز حيث لا عذر ولا عجز وكذلك القرض والمساقاة والسلم ونحوها مما شرع في الأصل لعذر مجرد الحاجة وإن جاز بعد زوال العذر فيجوز للإنسان أن يقترض وإن لم يكن به حاجة إلى الاقتراض وأن يساقي حائطه .

وإن كان قادرا على عمله بنفسه أو بالاستئجار عليه وهكذا فلا يسمى هذا كله عند العلماء باسم الرخصة ومخرج أيضا لما كان من أصل التكميلات مستثنى من أصل مشروع لعذر مجرد التكميل من غير مشقة موجودة كشرعية صلاة المأمومين جلوسا لعذر مجرد طلب الموافقة لإمامهم الذي لا يقدر على الصلاة قائما أو يقدر بمشقة حتى شرع في حقه الانتقال إلى الجلوس وإن كان مخلا بركن من أركان الصلاة لأنه بسبب المشقة صار الجلوس رخصة في حقه ففي الحديث إنما جعل الإمام ليؤتم به ثم قال وإن صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين فلا يسمى مثل هذا رخصة وإن كان مستثنى لعذر وقيد استثناء من أصل كلي يقضي المنع مدخل لما عرض لها من الرخص أن تكون كليات في الحكم بعد استقرار أصلها الكلي الذي استثنيت منه للعذر كجواز القصر والفطر للمسافر فإنه إنما كان [ ص: 139 ] بعد استقرار أحكام الصلاة والصوم وهذا وإن كانت آيات الصوم نزلت دفعة واحدة إلا أن الاستثناء ثان عن استقرار حكم المستثنى منه على الجملة وكذلك أكل الميتة للمضطر في قوله تعالى { فمن اضطر } الآية ومخرج لباقي أنواع العزيمة مما شرع ابتداء لا استثناء من أصل إلخ وقيد مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه مدخل لباقي أنواع الرخص وموضح للفرق بين ما شرع من الرخص وما شرع من الحاجيات الكلية بأن الرخص جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة فإن المصلي إذا انقطع سفره وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة وإلزام الصوم والمريض إذا قدر على القيام في الصلاة لم يصل قاعدا وإذا قدر على مس الماء لم يتيمم وكذلك سائر الرخص بخلاف القرض والقراض والمساقاة ونحو ذلك من الحاجيات الكلية التي تشبه الرخصة فإنه مشروع أيضا وإن زال العذر كما علمت .

الإطلاق الثاني على ما استثنى من أصل كلي يقتضي المنع مطلقا ولو لم يكن لعذر شاق فيدخل فيه ما استند إلى أصل الحاجيات من القرض والقراض والمساقاة ورد الصاع من الطعام في مسألة المصراة وبيع العرية بخرصها ثمرا وضرب الدية على العاقلة وما أشبه ذلك كما يدل عليه قوله { نهى عن بيع ما ليس عندك وأرخص في السلم } فيجري عليها في التسمية كما جرى عليها حكمها في الاستثناء من أصل مشروع ويدخل فيه أيضا ما استند إلى أصل التكميلات من صلاة المأمومين جلوسا اتباعا للإمام المعذور وصلاة الخوف المشروعة بالإمام كذلك أيضا ونحو ذلك فيطلق على ذلك لفظ الرخصة وإن لم يجتمع معها في أصل واحد كما أنه قد يطلق لفظ الرخصة على ما استمد من الرخص من أصل الضروريات كالمصلي لا يقدر على القيام فإن الرخصة في حقه ضرورية وإنما تكون حاجية إذا كان قادرا على القيام لكن بمشقة تلحقه فيه أو بسببه ، الإطلاق الثالث على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي دل عليها قوله تعالى { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } وقوله تعالى { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } فإن الرخصة في اللغة راجعة إلى معنى اللين وعلى هذا يحمل ما جاء في بعض الأحاديث أنه عليه السلام صنع شيئا ترخص فيه ويمكن أن يرجع إليه معنى الحديث الآخر { إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه } كما يمكن أن يحمل على أن الرخص التي هي محبوبة ما ثبت الطلب فيه أو ما أدى تركه إلى المشقة الفادحة التي قال في مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم { ليس من البر الصيام في السفر } فيوافق قوله تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقوله تعالى { يريد الله أن يخفف عنكم } بعد ما قال في الأولى { وأن تصوموا خير لكم } .

وفي الثانية { وأن تصبروا خير } لكن فليتفطن فكان ما جاء في هذه الملة السمحة [ ص: 140 ] من المسامحة واللين رخصة بالنسبة إلى ما حمله الأمم السابقة من العزائم الشاقة الإطلاق الرابع على ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقا مما هو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء أوطارهم فالرخصة على هذا عبارة عن الإذن في نيل الحظ الملحوظ من جهة العبد فيدخل عليه كل ما كان تخفيفا وتوسعة على المكلف وإن العزيمة كذلك لها في الشرع أربع إطلاقات تقابل إطلاقات الرخصة الأربعة المذكورة .

فإطلاقها المقابل لهذا الإطلاق الرابع هو ما نبه عليه قوله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقوله تعالى { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا } الآية ونحو ذلك مما دل على أن العبادة ملك لله على الجملة والتفصيل فحق عليهم التوجه إليه وبذل المجهود في عبادته لأنهم عباده وليس لهم حق لديه ولا حجة عليه فإذا وهب لهم حظا ينالونه فذلك كالرخصة لهم لأنه توجه إلى غير المعبود واعتناء بغير ما اقتضته العبودية وذلك المعنى المنبه عليه بذلك هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم كانت الأوامر وجوبا أو ندبا والنواهي كراهة أو تحريما وترك كل ما يشغل عن ذلك من المباحات فضلا عن غيرها لأن الأمر من الآمر مقصود أن يمتثل على الجملة وبالجملة فالعزائم ثم على هذا الإطلاق حق الله على العباد والرخص حظ العباد من لطف الله فتشترك المباحات مع الرخص على هذا الترتيب من حيث كانا معا توسعة على العبد ورفع حرج عنه وإثباتا لحظه وتصير المباحات عند هذا النظر تتعارض مع المندوبات على الأوقات فيؤثر حظه في الأخرى على حظه في الدنيا أو يؤثر حق ربه على حظ نفسه فيكون رافعا للمباح من عمله رأسا أو آخذا له حقا لربه فيصير حظه مندرجا تابعا لحق الله وحق الله هو المقدم هو المقصود فإن العبد بذل المجهود والرب يحكم ما يريد وهذا الوجه يعتبره الأوليات من أصحاب الأحوال وكذا غيرهم ممن رقى عن الأحوال وعليه يربون التلاميذ ألا ترى أن من مذاهبهم الأخذ بعزائم العلم واجتناب الرخص جملة حتى آل الحال بهم أن عدوا أصل الحاجيات كلها أو جلها .

وهو ما يرجع إلى حظ العبد منها حسبما بان لك في هذا الإطلاق الأخير من الرخص وإطلاق العزيمة المقابل للإطلاق الثالث هو التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي كانت على الذين من قبلنا ووضعت عن هذه الأمة رخصة في حقها كرامة لنبيها صلى الله عليه وسلم وإطلاقها المقابل للإطلاق الثاني هو ما لا يكون من الأحكام الكلية المشروعة ابتداء مستثنى من أصل كلي يقتضي المنع فلا تشمل على هذا ما استند من الأحكام إلى أصل الحاجيات ولا ما استند منها إلى أصل التكميلات كما لا تشمل ما كان منها مستند إلى أصل الضروريات وإطلاقها المقابل للإطلاق [ ص: 141 ] الأول هو ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء ومعنى كونها كلية أنها لا تختص ببعض المكلفين دون بعض فيدخل تحتها جميع كليات الشريعة لا فرق بين ما كان منها من العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم في كل شخص وفي كل حال وما كان منها مشروعا للتوصل إلى إقامة مصالح الدارين من البيع والإجارة وسائر عقود المعاوضات من القصاص والضمان وسائر أحكام الجنايات ومعنى شرعيتها ابتداء أن يكون قصد الشارع بها إنشاء الأحكام التكليفية على العبادتين من أول الأمر فلا يسبقها حكم شرعي قبل ذلك ولو حكما كالحكم الشرعي الأخير الناسخ لما قبله فإنه كالحكم الابتدائي تمهيدا للمصالح الكلية العامة وكذلك ما كان من الكليات واردا على سبب فإن الأسباب قد تكون مفقودة قبل ذلك فإذا وجدت اقتضت أحكاما كقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } وقوله تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } وقوله تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } وقوله تعالى { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } الآية وقوله تعالى { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه } .

ونحو ذلك مما كان تمهيدا لأحكام وردت شيئا بعد شيء بحسب الحاجة إلى ذلك وكذلك المستثنيات من العمومات وسائر المخصوصات كقوله تعالى { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله } وقوله تعالى { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } وقوله تعالى { فاقتلوا المشركين } { ونهى عليه السلام عن قتل النساء والصبيان } فهذا وما أشبهه من العزائم لأنه راجع إلى أحكام كلية ابتدائية وهذه الإطلاقات الأربعة للرخصة وما يقابلها للعزيمة منها ما هو خاص ببعض الناس وهو الرابع ومنها ما هو عام للناس كلهم وهو ما عدا الرابع كما هو ظاهر مما تقرر وهذا واختلف في إزالة النجاسة فقال جماعة من العلماء إنها رخصة لا عزيمة بناء على أنها حكم مستثنى من أصل كلي يقتضي المنع مطلقا وذلك الأصل هو أن القاعدة من أن السبب في تنجيس الطاهر ملاقاته للنجس إجماعا تقتضي أنا إذا صببنا الماء من الإبريق مثلا على النجاسة لنزيلها تنجس الجزء الواصل إلى النجاسة المتصل بها لملاقاته النجاسة فيتنجس الذي يليه لملاقاته له .

وهكذا حتى يتنجس الماء الذي داخل الإبريق بل ينجس ماء البحر المالح إذا وضعنا النجاسة في طرفه فلما قضى الشرع بأن النجاسة تزول وأن الماء لم يفسد مطلقا على ما تقتضيه هذه القاعدة كان ذلك رخصة من صاحب الشرع استثناها من تلك القاعدة والحق أن ما قالوه من أنها من باب الرخص لا حقيقة له بل هي من باب العزائم على وفق القواعد لا على خلافها وذلك أن الله تعالى لم يقض [ ص: 142 ] على الأعيان بأنها نجسة ولا متنجسة بمجرد كونها جواهر ولا أجساما إجماعا بل لأجل أعراض خاصة قامت بتلك الأجسام من لون خاص وكيفية خاصة معلومة في العادة فإذا انتفت تلك الكيفية وتلك الأعراض انتفى الحكم لانتفاء موجبه وانتفاء الحكم الشرعي لانتفاء سببه ليس من باب الرخص إجماعا ولا شك أن الأعراض الخاصة والكيفية الخاصة اللذين قضى الشرع لأجلها بالتنجيس ليسا موجودين في جميع أجزاء ماء الإبريق ولا في جميع أجزاء ماء البحر إذا وضعنا النجاسة في طرفه بل الأجزاء بعيدة من محل النجاسة ليس فيها شيء من ذلك قطعا فوجب أن يزول حكم التنجيس لزوال سببه كما يزول وجوب الزكاة لعدم النصاب ويزول وجوب الصوم في رمضان لزوال رمضان ونحو ذلك من الأحكام في الشريعة التي لا يسمى شيء من زوالها لزوال سببها رخصة فافهم والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية