الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1092 ] سورة النساء

                                                                                                                                                                                                                                      روى العوفي عن ابن عباس : نزلت سورة النساء بالمدينة .

                                                                                                                                                                                                                                      وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد زعم النحاس أنها مكية مستندا إلى أن قوله تعالى: إن الله يأمركم [النساء: 58] الآية، نزلت بمكة اتفاقا في شأن مفتاح الكعبة، وذلك مستند واه؛ لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات من سور طويلة - نزل معظمها بالمدينة - أن تكون مكية، خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه، ومما يرد عليه أيضا ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: " ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده " ودخولها عليه كان بعد الهجرة اتفاقا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: نزلت عند الهجرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وآياتها مائة وسبعون وخمس، وقيل ست وقيل سبع، كذا في الإتقان.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الحاكم عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها: إن الله لا يظلم مثقال ذرة [النساء: 40] الآية، و إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه [النساء: 31] الآية، [ ص: 1093 ] و إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: 48]، ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك [النساء: 64] الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى عبد الرزاق عنه أيضا قال: خمس آيات من النساء لهن أحب إلي من الدنيا جميعا: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وقوله: وإن تك حسنة يضاعفها وقوله: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: 64] وقوله: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما [النساء: 110].

                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن جرير ، عن ابن عباس قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت؛ أولهن: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم [النساء: 26]، والثانية: والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما [النساء: 27] والثالثة: يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [النساء: 28] ثم ذكر قول ابن مسعود سواء، يعني في الخمسة الباقية.

                                                                                                                                                                                                                                      لطيفة: إنما سميت سورة النساء ؛ لأن ما نزل منها في أحكامهن أكثر مما نزل في غيرها.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1094 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا [1]

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الناس اتقوا ربكم أي: اخشوه أن تخالفوه فيما أمركم به أو نهاكم عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم نبههم على اتصافه بكمال القدرة الباهرة، لتأييد الأمر بالتقوى وتأكيد إيجاب الامتثال به على طريق الترغيب والترهيب بقوله تعالى: الذي خلقكم من نفس واحدة أي: فرعكم من أصل واحد، وهو نفس أبيكم آدم، وخلقه تعالى إياهم على هذا النمط البديع مما يدل على القدرة العظيمة، ومن قدر على نحوه كان قادرا على كل شيء، ومنه عقابهم على معاصيهم.

                                                                                                                                                                                                                                      فالنظر فيه يؤدي إلى الاتقاء من موجبات نقمته، وكذا جعله تعالى إياهم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة من موجبات الاحتراز عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوة ، كما ينبئ عنه ما يأتي من الإرشاد إلى صلة الأرحام، ورعاية حال الأيتام، والعدل في النكاح، وغير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم عليه [ ص: 1095 ] أولئك النفر من مضر وهم مجتابو النمار (أي: من عريهم وفقرهم) قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة [النساء: من الآية 1] حتى ختم الآية، ثم قال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد [الحشر: من الآية 18] ثم حضهم على الصدقة فقال: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره وذكر تمام الحديث.

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا رواه أحمد وأهل السنن، عن ابن مسعود في خطبة الحاجة.

                                                                                                                                                                                                                                      وفيها: ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها: أيها الناس اتقوا ربكم الآية وخلق منها زوجها أي: من نفسها، يعني من جنسها ليكون بينهما ما يوجب التآلف والتضام، فإن الجنسية علة الضم، وقد أوضح هذا بقوله تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [الروم: 21].

                                                                                                                                                                                                                                      وبث منهما أي: نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها بطريق التوالد [ ص: 1096 ] والتناسل رجالا كثيرا ونساء أي: كثيرة، وترك التصريح بها للاكتفاء بالوصف المذكور.

                                                                                                                                                                                                                                      واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام تكرير للأمر وتذكير لبعض آخر من موجبات الامتثال به، فإن سؤال بعضهم بعضا بالله تعالى بأن يقولوا: أسألك بالله وأنشدك الله - على سبيل الاستعطاف - يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وتعليق الاتقاء بالاسم الجليل لمزيد التأكيد والمبالغة في الحمل على الامتثال بتربية المهابة وإدخال الروعة، ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته.

                                                                                                                                                                                                                                      و: تساءلون أصله تتساءلون، فطرحت إحدى التاءين تخفيفا، وقرئ بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس، وقرئ (تسألون) من الثلاثي، أي: تسألون به غيركم، وقد فسر به القراءة الأولى والثانية، وحمل صيغة التفاعل على اعتبار الجمع، كما في قولك: رأيت الهلال وتراءيناه، أفاده أبو السعود .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: والأرحام قرأ حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور، والباقون بالنصب عطفا على الاسم الجليل، أي: اتقوا الله والأرحام أن تقطعوها، فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى، أو عطفا على محل الجار والمجرور، كقولك: مررت بزيد وعمرا، وينصره قراءة: (تساءلون به وبالأرحام) فإنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله عز وجل، ويقولون: أسألك بالله وبالرحم، ولقد نبه سبحانه وتعالى - حيث قرنها باسمه الجليل - على أن صلتها بمكان منه، كما في قوله تعالى: ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [الإسراء: من الآية 23]، وقال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين [النساء: من الآية 36].

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1097 ] وقد روى الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله .

                                                                                                                                                                                                                                      ورويا أيضا عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يدخل الجنة قاطع .

                                                                                                                                                                                                                                      قال سفيان في روايته: يعني قاطع رحم.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها .

                                                                                                                                                                                                                                      ورويا عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه والأحاديث في الترغيب بصلة الرحم ، والترهيب من قطيعتها كثيرة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية