الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 255 ] فصل ( في آداب المشي مع الناس وآداب الصغير مع الكبير فيه وفي غيره ) .

قال ابن عقيل رحمه الله ومن مشى مع إنسان فإن كان أكبر منه وأعلم مشى عن يمينه يقيمه مقام الإمام في الصلاة وإذا كانا سواء استحب أن يخلي له عن يساره حتى لا يضيق عليه جهة البصاق والامتخاط ومقتضى كلامه استحباب مشي الجماعة خلف الكبير ، وإن مشوا عن جانبيه فلا بأس كالإمام في الصلاة .

وفي مسلم في أول كتاب الإيمان قول يحيى بن يعمر أنه هو وحميد بن عبد الرحمن مشيا عن جانبي ابن عمر قال في شرح مسلم فيه تنبيه على مشي الجماعة مع فاضلهم وهو أنهم يكتنفونه ويحفون به .

وقال القاضي إذا مشيت مع من تعظمه أين تمشي منه قال لا أدري فقال عن يمينه تقيمه مقام الإمام في الصلاة وتخلي له الجانب الأيسر إذا أراد أن يستنثر أو يزيل أذى جعله في الجانب الأيسر .

وقال الشيخ عبد القادر رحمه الله : وإن كان دونه في المنزلة يجعله عن يمينه ويمشي عن يساره ، وقد قيل المستحب المشي عن اليمين في الجملة ليخلي اليسار للبصاق وغيره انتهى كلامه .

وحكى عن الخلال أنه حكى في الأدب عن الإمام أحمد رضي الله عنه أن التابع يمشي عن يمين المتبوع .

وقال أبو داود في مسائله ( باب في الأدب ) قال رأيت أحمد جاءه ابن لمصعب بن الزبير فأراد أحمد أن يخرج من المسجد فقال لابن مصعب تقدم ، فأبى وحلف ابن مصعب فتقدم أبو عبد الله بين يديه في المشي انتهى كلامه .

ويؤخذ من هذا أن الكبير إذا راعى الصغير ، وتأدب معه يحسن ذلك منه ، وأن الصغير إن شاء قبل ذلك ; لأنه امتثال ، وإن شاء رده لأنه وقوف مع الأدب . [ ص: 256 ]

وفي الصحيحين عن عائشة { أن النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه أرسل إلى أبي بكر يصلي بالناس فأتاه الرسول فقال له ذلك فقال : يا عمر صل بالناس ، فقال عمر ، أنت أحق بذلك فصلى أبو بكر تلك الأيام وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه أن لا يتأخر } ، وذكر الحديث ولم يتأخر ؟

وفي لفظ { مروا أبا بكر فليصل بالناس فقلت يا رسول الله : إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه فلو أمرت غير أبي بكر قال : والله ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول من يقوم في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : فراجعته مرتين أو ثلاثا فقال : ليصل بالناس أبو بكر فإنكن صواحب يوسف } .

وفي لفظ { فلو أمرت عمر فقال : مروا أبا بكر فقلت لحفصة : قولي له . فقالت له . فقال : إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر } وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد { أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب ليصلح بين عمرو بن عوف فجاء وأبو بكر يصلي بالناس فأشار إليه أن امكث مكانك فرفع أبو بكر يده فحمد الله وأثنى عليه ذلك ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ثم انصرف فقال يا أبا بكر : ما منعك أن تثبت إذ أمرتك ؟ فقال أبو بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم } .

وفي ذلك فوائد جليلة منها قال في شرح مسلم عن الخبر الأول ، فيه أن المفضول إذا عرض عليه الفاضل مرتبة لا يقبلها بل يدعها للفاضل إذا لم يمنع مانع .

وقال عن الخبر الثاني فيه أن التابع إذا أمره المتبوع بشيء وفهم منه إكرامه بذلك الشيء لا يتحتم الفعل وله أن يتركه ، ولا يكون هذا مخالفة للأمر بل يكون أدبا وتواضعا وتحذقا في فهم المقاصد . وفيه ملازمة الأدب مع الكبار .

وقال الخلال في تقدمة الصغير بين يدي الكبير في المشي : أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد قال : رأيت أبا عبد الله يمشي بين يدي عمه فربما [ ص: 257 ] تقدم فيكون أمامه . أخبرنا عبد الله قال أبي : ما كان أعقل بشر بن المفضل ؟ كان بشر أسن من معاذ بن معاذ وكان بشر لا يخرج من المسجد حتى يخرج معاذ ، إكراما منه لمعاذ .

قال ابن الجوزي رحمه الله وإذا أذن له ومعه من هو أكبر منه قدم الأكبر فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أمرني . جبريل عليه السلام أن أكبر } وقال : { قدموا الكبير } .

وقال مالك بن مغول : كنت أمشي مع طلحة بن مصرف فصرنا إلى مضيق فتقدمني ثم قال : لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم ما تقدمتك

ورأى إبراهيم بن سعد الشباب قد تقدموا على المشايخ فقال ما أسوأ أدبكم لا أحدثكم سنة . فإن كان الأصغر أعلم فتقديمه أولى .

ثم روي بإسناد عن الحسن بن منصور قال : كنت مع يحيى بن يحيى وإسحاق بن راهويه يوما نعود مريضا فلما حاذينا الباب تأخر إسحاق وقال ليحيى تقدم أنت قال يا أبا زكريا أنت أكبر مني قال نعم أنا أكبر منك ، وأنت أعلم فتقدم إسحاق انتهى كلام ابن الجوزي .

وهو يقتضي أن من له التقديم يتقدم عملا بالسنة وإن ذلك يحسن منه ، وإن الأعلم يقدم مطلقا ولا اعتبار معه إلى سن ولا صلاح ولا شيء ، وإن الأسن يقدم على الأدين والأورع كما هو ظاهر في المستوعب وغيره في الوليين في النكاح المتساويين في الدرجة ، وقطع في الرعاية في النكاح بتقديم الأدين والأورع على الأسن ، وهذا مثله فإن استوى اثنان في العلم والسن ، فينبغي أن يقدم من له مزية بدين أو ورع أو نسب وما أشبه ذلك ، وينبغي أن يعتبر في تقديم الأدين ثم الأعلم الطريقة الحسنة والسيرة الجميلة ، وقد يتوجه أن يقال يقدم بعد الأعلم من يقدم في إمامة الصلاة على ما هو مذكور في الفقه .

وقد روى الشافعي عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن الزهري أن بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { قدموا قريشا ولا تقدموها وتعلموا منها [ ص: 258 ] ولا تعالموها أو تعلموها } شك ابن أبي فديك مرسل ، ولقائل أن يقول المراد به الخلافة ولهذا في الصحيحين من حديث أبي هريرة { والناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم } وذكر البيهقي للخبر الأول شواهد من طرق . وذكر ابن الجوزي بعد ذلك ما رواه أحمد بإسناده عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا } وسبق هذا الخبر في فصل القيام .

وروى ابن ماجه عن علي بن محمد عن وكيع عن سفيان عن الأسود بن قيس عن نبيح عن جابر رضي الله عنه قال { كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمشون أمامه إذا خرج ويدعون ظهره للملائكة } إسناده حسن وروي أيضا معناه .

وروى أحمد خبر جابر المذكور أظنه عن وكيع وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : { ما رئي النبي صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا ولا يطأ عقبه رجلان } إسناده جيد رواه أبو داود وابن ماجه وعن أبي أمامة الباهلي قال { مر النبي صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر نحو بقيع الغرقد ، وكان الناس يمشون خلفه فلما سمع صوت النعال جلس حتى قدمهم أمامه لئلا يقع في نفسه شيء من الكبر } رواه أحمد وابن ماجه .

وقال الشيخ تقي الدين في الجواب عما ادعاه الرافضي من أن عثمان رضي الله عنه أدب بعض الصحابة : ولي الله قد يصدر منه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية فيكف بالتعزير وقد ضرب عمر بن الخطاب أبي بن كعب رضي الله عنهما بالدرة لما رأى الناس يمشون خلفه فقال : ما هذا يا أمير المؤمنين ؟ فقال هذا ذلة للتابع فتنة للمتبوع . وهذا الأثر رواه سعيد بن منصور عن سفيان بن عيينة قال : رأى عمر مع أبي بن كعب جماعة فعلاه بالدرة فقال : إني أعلم ما تصنع يرحمك الله فقال : أما علمت أنها فتنة للمتبوع مذلة للتابع [ ص: 259 ]

وقال حنبل بن إسحاق ثنا قبيصة ثنا حسن بن صالح ثنا أصحابنا عن علي قال : إذا تعلمتم العلم فاكظموا عليه ولا تخلطوه بضحك ولا باطل فتمجه القلوب وكذا رواه ابن وهب عن سفيان بن عيينة عن علي وزاد قال علي أخروا عني خفق نعالكم فإنها مفسدة لقلوب الرجال .

وقيل للقاضي أبي يعلى في الخلاف في المشي أمام الجنازة كالشفيع لا يجوز اعتبار هذا بالشفيع ; لأن تقدم الشفيع وتأخره على وجه واحد ليس بعضه أفضل من بعض ولا كذلك المشي ، أمام الجنازة وخلفها لأنهم اتفقوا أن أحدهما أفضل من الآخر فقال : لا نسلم هذا بل التقديم بالخطاب في الشفعاء ، وإظهار نفسه والمبالغة في ذلك أفضل من التأخير فيها ، فلا فرق بينهما قال : والجنازة متبوعة معناه مقصودة فإن الناس يمشون لأجلها وقد يكون الشيء مقصودا ثم يتأخر عن تابعه ألا ترى أن الناس إذا شفعوا للرجل تقدموا عليه ؟ وكذلك جند السلطان يتقدمونه ، وهم تبع ، وسبق كلام صاحب النظم في فصول القيام .

ولمسلم عن جابر بن سمرة قال { : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن الدحداح ثم أتي بفرس عري فعقله رجل فركبه فجعل يتوقص به ونحن نتبعه نسعى خلفه } .

ويقال أبو الدحداح أيضا يتوقص به يتوثب به قال في شرح مسلم قوله . ونحن نمشي حوله فيه جواز مشي الجماعة مع كبيرهم الراكب ، وإنه لا كراهة فيه في حقهم ولا في حقه وإذا لم يكن فيه مفسدة ، وإنما كره ذلك إذا حصل فيه انتهاك للتابعين أو خيف إعجاب ونحوه في حق المتبوع ونحو ذلك من المفاسد .

وذكر الخطابي والحاكم وابن عقيل في الفنون أن أبا بكر بن داود الظاهري وأبا العباس بن شريح والمبرد اجتمعوا في موضع فتقدم أبو بكر بن داود وقال : العلم قدمني ، وتأخر ابن شريح وقال : الأدب أخرني ، فنسبهما المبرد إلى الخطإ وقال : إذا صحت المودة سقط التكلف .

التالي السابق


الخدمات العلمية