الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 565 ] 36

ثم دخلت سنة ست وثلاثين

ذكر تفريق علي عماله وخلاف معاوية

وفي هذه السنة فرق علي عماله على الأمصار ، فبعث عثمان بن حنيف على البصرة ، وعمارة بن شهاب على الكوفة ، وكانت له هجرة ، وعبيد الله بن عباس على اليمن ، وقيس بن سعد على مصر ، وسهل بن حنيف على الشام .

فأما سهل فإنه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل ، فقالوا : من أنت ؟ قال : أمير . قالوا : على أي شيء ؟ قال : على الشام . قالوا : إن كان بعثك عثمان فحي هلا بك ، وإن كان بعثك غيره فارجع . قال : أوما سمعتم بالذي كان ؟ قالوا : بلى . فرجع إلى علي .

وأما قيس بن سعد فإنه لما انتهى إلى أيلة لقيته خيل ، فقالوا له : من أنت ؟ قال : من فالة عثمان ، فأنا أطلب من آوي إليه فأنتصر به لله . قالوا : من أنت ؟ قال : قيس بن سعد . قالوا : امض . فمضى حتى دخل مصر . فافترق أهل مصر فرقا ، فرقة دخلت في الجماعة فكانوا معه ، وفرقة اعتزلت بخرنبا وقالوا : إن قتل قتلة عثمان فنحن معكم ، وإلا فنحن على جديلتنا حتى نحرك أو نصيب حاجتنا ، وفرقة قالوا : نحن مع علي ما لم يقد من إخواننا ، وهم في ذلك مع الجماعة . وكتب قيس إلى علي بذلك .

[ ص: 566 ] وأما عثمان بن حنيف فسار ولم يرده أحد عن دخول البصرة ، ولم يجد لابن عامر في ذلك رأيا ولا استقلالا بحرب ، وافترق الناس بها ، فاتبعت فرقة القوم ، ودخلت فرقة في الجماعة ، وقالت فرقة : ننظر ما يصنع أهل المدينة فنصنع كما صنعوا .

وأما عمارة بن شهاب ، فلما بلغ زبالة لقيه طليحة بن خويلد ، وكان خرج يطلب بثأر عثمان وهو يقول : له في على أمر لم يسبقني ولم أدركه ! وكان خروجه عند عود القعقاع من إغاثة عثمان ، فلما لقي عمارة قال له : ارجع ، فإن القوم لا يريدون بأميرهم بدلا ، فإن أبيت ضربت عنقك . فرجع عمارة إلى علي بالخبر .

وانطلق عبيد الله بن عباس إلى اليمن ، فجمع يعلى بن منية كل شيء من الجباية وخرج به إلى مكة ، فقدمها بالمال ، ودخل عبيد الله اليمن .

ولما رجع سهل بن حنيف من الشام ، وأتت عليا الأخبار دعا طلحة والزبير فقال : إن الأمر الذي كنت أحذركم قد وقع ، وإن الذي قد وقع لا يدرك إلا بإماتته ، وإنها فتنة كالنار كلما سعرت ازدادت واستثارت . فقالا له : ائذن لنا نخرج من المدينة ، فإما أن نكاثر وإما أن تدعنا . فقال : سأمسك الأمر ما استمسك ، فإذا لم أجد بدا فآخر الداء الكي .

وكتب إلى معاوية وإلى أبي موسى . فكتب إليه أبو موسى بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم ، وبين الكاره منهم للذي كان ، والراضي ، ومن بين ذلك ، حتى كان علي كأنه يشاهدهم . وكان رسول علي إلى أبي موسى معبد الأسلمي ، وكان رسوله إلى معاوية سبرة الجهني ، فقدم عليه ، فلم يجبه معاوية بشيء ، كلما تنجز جوابه لم يزد على قوله :


أدم إدامة حصن أو خذا بيدي حربا ضروسا تشب الجزل والضرما     في جاركم وابنكم إذ كان مقتله
شنعاء شيبت الأصداغ واللمما     أعيا المسود بها والسيدون
فلم يوجد غيرنا مولى ولا حكما



[ ص: 567 ] حتى إذا كان الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر ، دعا معاوية رجلا من بني عبس ، يدعى قبيصة ، فدفع إليه طومارا مختوما عنوانه : من معاوية إلى علي ، وقال له : إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار ، ثم أوصاه بما يقول ، وأعاد رسول علي معه . فخرجا فقدما المدينة في ربيع الأول ، فدخلها العبسي كما أمره قد رفع الطومار ، فتبعه الناس ينظرون إليه ، وعلموا أن معاوية معترض ، ودخل الرسول على علي فدفع إليه الطومار ، ففض ختمه فلم يجد فيه كتابا . فقال للرسول : ما وراءك ؟ قال : آمن أنا ؟ قال : نعم ، إن الرسول لا يقتل . قال : ورائي أني تركت قوما لا يرضون إلا بالقود . قال : ممن ؟ قال : من خيط رقبتك . وتركت ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان ، وهو منصوب لهم قد ألبسوه منبر دمشق . قال : أمني يطلبون دم عثمان ، ألست موتورا كترة عثمان ؟ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان ! نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله ، فإنه إذا أراد أمرا أصابه ، اخرج . قال : وأنا آمن ؟ قال : وأنت آمن .

فخرج العبسي ، وصاحت السبئية وقالت : هذا الكلب رسول الكلاب ، اقتلوه ! فنادى : يا آل مضر يا آل قيس ! الخيل والنبل ! أقسم بالله ليردنها عليكم أربعة آلاف خصي ، فانظروا كم الفحول والركاب ! وتعاونوا عليه ، فمنعته مضر ، فجعلوا يقولون له : اسكت ، فيقول : لا والله لا يفلح هؤلاء أبدا ، أتاهم ما يوعدون ، لقد حل بهم ما يحذرون ، انتهت والله أعمالهم وذهبت ريحهم ، فوالله ما أمسوا حتى عرف الذل فيهم .

وأحب أهل المدينة أن يعلموا رأي علي في معاوية وقتاله أهل القبلة ، أيجسر عليه أم ينكل عنه ؟ وقد بلغهم أن ابنه الحسن دعاه إلى القعود وترك الناس ، فدسوا زياد بن حنظلة التميمي ، وكان منقطعا إلى علي فجلس إليه ساعة ، فقال له علي : يا زياد تيسر ، فقال : لأي شيء ؟ فقال : لغزو الشام . فقال زياد : الأناة والرفق أمثل ، وقال :

ومن لم يصانع في أمور كثيرة يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم

فتمثل علي وكأنه لا يريده :

[ ص: 568 ]

متى تجمع القلب الزكي وصارما     وأنفا حميا تجتنبك المظالم



فخرج زياد والناس ينتظرونه وقالوا : ما وراءك ؟ فقال : السيف يا قوم . فعرفوا ما هو فاعل . واستأذنه طلحة والزبير في العمرة ، فأذن لهما ، فلحقا بمكة ، ودعا علي محمد بن الحنفية فدفع إليه اللواء ، وولى عبد الله بن عباس ميمنته ، وعمر بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد ولاه ميسرته ، ودعا أبا ليلى بن عمر بن الجراح ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح فجعله على مقدمته ، واستخلف على المدينة قثم بن العباس ، ولم يول ممن خرج على عثمان أحدا .

وكتب إلى قيس بن سعد ، وإلى عثمان بن حنيف ، وإلى أبي موسى أن يندبوا الناس إلى أهل الشام ، ودعا أهل المدينة إلى قتالهم ، وقال لهم : إن في سلطان الله عصمة أمركم فأعطوه طاعتكم غير ملوية ولا مستكره بها ، والله لتفعلن أو لينقلن الله عنكم سلطان الإسلام ، ثم لا ينقله إليكم أبدا حتى يأرز الأمر إليها ، انهضوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون تفريق جماعتكم ، لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الذي عليكم .

( خرنبا بفتح الخاء المعجمة ، وسكون الراء ، وفتح النون ، والباء الموحدة ، وآخره ألف ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية