الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 364 ] [ ص: 365 ] [ ص: 366 ] [ ص: 367 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : ( سبح اسم ربك الأعلى ( 1 ) الذي خلق فسوى ( 2 ) والذي قدر فهدى ( 3 ) والذي أخرج المرعى ( 4 ) فجعله غثاء أحوى ( 5 ) سنقرئك فلا تنسى ( 6 ) إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ( 7 ) ) .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( سبح اسم ربك الأعلى ) فقال بعضهم : معناه : عظم ربك الأعلى ، لا رب أعلى منه وأعظم ، وكان بعضهم إذا قرأ ذلك قال : سبحان ربي الأعلى .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر أنه كان يقرأ : ( سبح اسم ربك الأعلى ) سبحان ربي الأعلى ( الذي خلق فسوى ) قال : وهي في قراءة أبي بن كعب كذلك .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : سفيان ، عن السدي ، عن عبد خير ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه قرأ : ( سبح اسم ربك الأعلى ) فقال : سبحان ربي الأعلى .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق الهمداني ، أن ابن عباس ، كان إذا قرأ ( سبح اسم ربك الأعلى ) يقول : سبحان ربي الأعلى ، وإذا قرأ ( لا أقسم بيوم القيامة ) فأتى على آخرها ( أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) ؟ يقول : سبحانك اللهم وبلى . [ ص: 368 ]

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( سبح اسم ربك الأعلى ) ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال : سبحان ربي الأعلى .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن خارجة ، عن داود ، عن زياد بن عبد الله ، قال : سمعت ابن عباس يقرأ في صلاة المغرب : ( سبح اسم ربك الأعلى ) سبحان ربي الأعلى .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : نزه يا محمد اسم ربك الأعلى ، أن تسمي به شيئا سواه ، ينهاه بذلك أن يفعل ما فعل من ذلك المشركون من تسميتهم آلهتهم بعضها اللات وبعضها العزى .

وقال غيرهم : بل معنى ذلك : نزه الله عما يقول فيه المشركون كما قال : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) وقالوا : معنى ذلك : سبح ربك الأعلى; قالوا : وليس الاسم معنيا .

وقال آخرون : نزه تسميتك يا محمد ربك‌ الأعلى وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت له خاشع متذلل; قالوا : وإنما عني بالاسم : التسمية ، ولكن وضع الاسم مكان المصدر .

وقال آخرون : معنى قوله : ( سبح اسم ربك الأعلى ) : صل بذكر ربك يا محمد ، يعني بذلك : صل وأنت له ذاكر ، ومنه وجل خائف .

وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : معناه : نزه اسم ربك أن تدعو به الآلهة والأوثان ، لما ذكرت من الأخبار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة أنهم كانوا إذا قرءوا ذلك قالوا : سبحان ربي الأعلى ، فبين بذلك أن معناه كان عندهم معلوما : عظم اسم ربك ونزهه .

وقوله : ( الذي خلق فسوى ) يقول : الذي خلق الأشياء فسوى خلقها ، وعدلها ، والتسوية التعديل .

وقوله : ( والذي قدر فهدى ) يقول تعالى ذكره : والذي قدر خلقه فهدى .

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عني بقوله : ( فهدى ) ، فقال بعضهم : هدى الإنسان لسبيل الخير والشر ، والبهائم للمراتع .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، [ ص: 369 ] قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( قدر فهدى ) قال : هدى الإنسان للشقوة والسعادة ، وهدى الأنعام لمراتعها .

وقال آخرون : بل معنى ذلك ، هدى الذكور لمأتى الإناث . وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى .

والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن الله عم بقوله : ( فهدى ) الخبر عن هدايته خلقه ، ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى ، وقد هداهم لسبيل الخير والشر ، وهدى الذكور لمأتى الإناث ، فالخبر على عمومه حتى يأتي خبر تقوم به الحجة ، دال على خصوصه . واجتمعت قراء الأمصار على تشديد الدال من قدر ، غير الكسائي فإنه خففها .

والصواب في ذلك التشديد ؛ لإجماع الحجة عليه .

وقوله : ( والذي أخرج المرعى ) يقول : والذي أخرج من الأرض مرعى الأنعام من صنوف النبات وأنواع الحشيش .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن مكرم ، قال ثنا الحفري ، قال ثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ( أخرج المرعى ) قال : النبات .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( والذي أخرج المرعى ) الآية ، نبت كما رأيتم بين أصفر وأحمر وأبيض .

وقوله : ( فجعله غثاء أحوى ) يقول تعالى ذكره : فجعل ذلك المرعى غثاء ، وهو ما جف من النبات ويبس ، فطارت به الريح; وإنما عني به هاهنا أنه جعله هشيما يابسا متغيرا إلى الحوة ، وهي السواد من بعد البياض أو الخضرة من شدة اليبس .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : ( غثاء أحوى ) يقول : هشيما متغيرا

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، [ ص: 370 ] قوله : ( غثاء أحوى ) قال : غثاء السيل أحوى ، قال : أسود .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ( غثاء أحوى ) قال : يعود يبسا بعد خضرة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فجعله غثاء أحوى ) قال : كان بقلا ونباتا أخضر ، ثم هاج فيبس ، فصار غثاء أحوى تذهب به الرياح والسيول . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام : والذي أخرج المرعى أحوى ؛ أي : أخضر إلى السواد ، فجعله غثاء بعد ذلك ، ويعتل لقوله ذلك بقول ذي الرمة :


حواء قرحاء أشراطية وكفت فيها الذهاب وحفتها البراعيم



وهذا القول وإن كان غير مدفوع أن يكون ما اشتدت خضرته من النبات ، قد تسميه العرب أسود ، غير صواب عندي بخلافه تأويل أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلا بتقديمه عن موضعه ، أو تأخيره ، فأما وله في موضعه وجه صحيح فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير .

وقوله : ( سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ) يقول تعالى ذكره : سنقرئك [ ص: 371 ] يا محمد هذا القرآن فلا تنساه ، إلا ما شاء الله .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( فلا تنسى إلا ما شاء الله ) فقال بعضهم : هذا إخبار من الله نبيه عليه الصلاة والسلام أنه يعلمه هذا القرآن ويحفظه عليه ، ونهى منه أن يعجل بقراءته كما قال جل ثناؤه : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ) .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن; قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( سنقرئك فلا تنسى ) قال : كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى ، فقال قائلو هذه المقالة : معنى الاستثناء في هذا الموضع على النسيان ، ومعنى الكلام : فلا تنسى ، إلا ما شاء الله أن تنساه ، ولا تذكره ، قالوا : ذلك هو ما نسخه الله من القرآن ، فرفع حكمه وتلاوته .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( سنقرئك فلا تنسى ) كان صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئا ( إلا ما شاء الله ) .

وقال آخرون : معنى النسيان في هذا الموضع : الترك; وقالوا : معنى الكلام : سنقرئك يا محمد فلا تترك العمل بشيء منه ، إلا ما شاء الله أن تترك العمل به ، مما ننسخه .

وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك : لم يشأ الله أن تنسى شيئا ، وهو كقوله : ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ولا يشاء . قال : وأنت قائل في الكلام : لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت ، وإلا أن أشاء أن أمنعك ، والنية أن لا تمنعه ، ولا تشاء شيئا . قال : وعلى هذا مجاري الأيمان ، يستثنى فيها ، ونية الحالف : اللمام .

والقول الذي هو أولى بالصواب عندي قول من قال : معنى ذلك : فلا تنسى إلا أن نشاء نحن أن ننسيكه بنسخه ورفعه .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ؛ لأن ذلك أظهر معانيه .

وقوله : ( إنه يعلم الجهر وما يخفى ) يقول تعالى ذكره : إن الله يعلم الجهر [ ص: 372 ] يا محمد من عملك ما أظهرته وأعلنته ( وما يخفى ) يقول : وما يخفى منه فلم تظهره مما كتمته ، يقول : هو يعلم جميع أعمالك سرها وعلانيتها ; يقول : فاحذره أن يطلع عليك وأنت عامل في حال من أحوالك بغير الذي أذن لك به .

التالي السابق


الخدمات العلمية