الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 187 ] مسألة في الفتوة وآدابها وشرائطها [ ص: 188 ] [ ص: 189 ] مسألة

في الفتوة وآدابها وشرائطها، وهل لها أصل في كتاب الله وسنة رسول الله؟ وهل الفتوة متصلة بإبراهيم الخليل عليه السلام أو بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ وهل إذا كانت متصلة بأحد من الأنبياء أو من الأولياء، فهل للباس والماء والملح الذي يشربونه أصل في ذلك؟ حتى أنه إذا شرب أحدهم الشربة يعد نسبها إلى آدم عليه السلام، وكيف سميت فتوة؟ وأيش السبب في ذلك؟ وهل لأحد من أئمة المسلمين قول في ذلك أم لا؟.

الجواب

الحمد لله. الفتى في كلام العرب هو الحدث بالنسبة إلى غيره، كما قال تعالى: إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ، وقال تعالى: قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ، وإذ قال موسى لفتاه ، وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم .

ثم إنها غلبت في عرف كثير من الناس على مكارم الأخلاق، لكون الشباب ألين أخلاقا من الشيوخ، وصاروا يطلقون الفتوة على ذلك، حتى قال بعض المشايخ: طريقتنا تتفتى وليس تتعرى. وكما قال آخر منهم: التصوف خلق، من زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف. [ ص: 190 ]

وأعظم مكارم الأخلاق تقوى الله، ولهذا روي عن الإمام أحمد أنه سئل عن الفتوة، فقال: ترك لما تخشى. وهذا من قوله: وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى . ولهذا يقولون: إن هذه الآية تجمع علم الطريق، وصار يتكلم في الفتوة وما يدخل فيها من طوائف من المشايخ وغيرهم، وجماع الأمر المحمود يرجع إلى الأصلين، كما روى حديثا صححه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: الأجوفان: الفم والفرج .

فتقوى الله وحسن الخلق يجمع كل خير، وقد قال الله تعالى: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون . وسواء سمي ذلك فتوة أم لم يسم، فالاعتبار في الدين بالإخاء التي جاءت في القرآن وما علق بها من مدح وذم، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، فالممدوح مثل اسم الإيمان والإسلام والتقوى والإحسان والبر والصدق والعدل ونحو ذلك، والمذموم مثل الكفر والنفاق والفجور والإساءة والكذب والظلم والفواحش ونحو ذلك. فمن فعل ما يحمد عليه في القرآن حمد، ومن فعل ما يذم عليه في القرآن ذم، ومن فعل ما يحمد وما يذم استحق الحمد والذم جميعا، وما ربك بظلام للعبيد . [ ص: 191 ]

وأما سقي الماء والملح وإلباس السراويل ونحو ذلك فبدعة باطلة لا أصل لها، ولم يفعل ذلك أحد من الأنبياء والصالحين، لا إبراهيم ولا علي ولا غيرهما.

ولا يشرع اجتماع طائفة وتحزبهم على التناصر المطلق، بحيث ينصر بعضهم بعضا في الحق والباطل، بل الواجب على كل أحد اتباع كتاب الله وسنة رسوله، والمؤمنون إخوة يجب موالاة بعضهم بعضا وتناصرهم وتعاونهم على البر والتقوى. قال تعالى: إنما المؤمنون إخوة ، وقال تعالى: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ، وقال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم .

وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". وقال : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، وشبك بين أصابعه. وقال : "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه". [ ص: 192 ]

وأمثال هذه الآيات والأحاديث التي إذا آمن الناس بها، وسموا بما سماهم الله ورسوله، جمع الله لهم خير الدنيا والآخرة.

ولم يكن من الأنبياء ولا الصحابة ولا التابعين لا من أهل البيت ولا غيرهم [من] يدعو الناس إلى هذا الاسم، ولا يحزب له أحزابا عليه. ومن نقل عن أمير المؤمنين علي أو غيره شيئا من ذلك فقد كذب عليه باتفاق أهل المعرفة بحاله.

وأما الأمور المكروهة في الدين من الظلم والكذب ونحو ذلك، فلا يشك مؤمن بالله ورسوله أنه يجب النهي عن ذلك، بل يجب النهي عن دواعي ذلك وأسبابه وما يقصد به ذلك.

وكثير مما تسميه الناس فتوة في هذا الزمان يقصدون به التعاون على ظلم أو فاحشة، ويجعلون ذلك وسيلة لصيد المردان وإفسادهم، فلو كان الفعل الذي يفعلونه مباحا وكان المقصود به ذلك لكان محرما باتفاق المسلمين، فإن في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".

فإذا كانت الهجرة التي أمر الله بها عباده، إذا كان مقصود المهاجر [بها] التزوج بامرأة أو طلب دنيا لم يكن له إلا ذلك، ولم يكن له في الآخرة من خلاق، فكيف ممن يفعل البدع لقصد الفواحش والظلم، [ ص: 193 ] حتى يجرئوا الشباب على القتل المحرم وأخذ الأموال والعشرة في طاعة الشيطان، من جنـ[ـس] ما يفعله أهل الدساكر وأهل المياسر.

والواجب النهي عن هذه الشباهة، وعقوبة من يفعل ذلك عقوبة بليغة تردع المتعاونين على الإثم والعدوان المتشبثين بخطوات الشيطان.

والله أعلم.

* * * [ ص: 194 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية