الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 579 ] الوجه الرابع والعشرون: أن المنازعين له في مسألة الرؤية قالوا لهم: ما ذكرتموه من الحجة يقتضي كون الباري مدركا بإدراك اللمس؛ وذلك لأنا من حيث اللمس نميز بين الطويل والأطول كما أنا نميز من حيث البصر بين الطويل والأطول، فإن اقتضى ذلك كون الأجسام مرئية اقتضى أن تكون ملموسة.

ولا شك أنا ندرك من حيث اللمس الفرق بين الحرارة والبرودة، فإن إدراك اللمس معلق بالأجسام والأعراض، فيعود ما ذكرتموه من الرؤية بتمامه في اللمس، فيلزمكم تعلق اللمس للباري تعالى وأنه باطل بالضرورة.

وقال في الجواب: إن أصحابنا التزموا ذلك، ولا طريق إلا ذلك.

[ ص: 580 ] وقال أيضا: قولهم: لو كان الوجود علة لصحة رؤية الحقائق لصح منا رؤية الطعوم والعلوم، وذلك معلوم الفساد بالضرورة. قلنا: دعوى الضرورة في محل الخلاف غير مقبولة.

وذكر أيضا أن المخالفين له في مسألة الرؤية يدعون العلم الضروري بوجوب الرؤية عند الشروط النهائية وامتناعها عند عدمها: وهو ما إذا كانت الحاسة سليمة، والمرئي حاضرا، ولا يكون على القرب القريب ولا على البعد البعيد، ولا يكون صغيرا جدا ولا لطيفا، ولا يكون بين المرئي والرائي حجب كثيفة، وكان المرئي مقابلا للرائي أو في حكم المقابلة.

فتارة يدعون أن ذلك العلم الضروري حاصل للعقلاء بعد [ ص: 581 ] الاختيار ولا حاجة فيه إلى ضرب الأمثال، وتارة يثبتون بالاستدلال أن ذلك معلوم بالضرورة.

وقال في الجواب: أما دعوى العلم الضروري بحصول الإدراك عند حضور هذه الأمور فلا نزاع فيه، وأما العلم الضروري بعدمه عند عدمها ففيه كل النزاع.

قال: فإن زعمت أنا مكابرون في هذا الإنكار حلفنا بالأيمان المغلظة أنا لما رجعنا إلى أنفسنا لم نجد العلم بذلك أكثر من العلم باستمرار الأمور العادية التي توافقنا على جواز تغيرها عن مجاريها، فإن الإنسان كما يستبعد أن يأخذ الحديدة المحماة بيده ولا يجد حرارتها فكذلك يستبعد أن يذهب إلى جيحون فيجد ماءه بالكلية دما أو عسلا ويرى [ ص: 582 ] شخصا شابا قويا، مع أن ذلك الشخص حدث في تلك اللحظة من غير أب وأم على ذلك الوجه، ويرى طفلا رضيعا مع أن ذلك الطفل كان مولودا قبل ذلك بمائة ألف سنة على تلك الحال، وليس استبعاد ما ذكروه بأقوى من هذه الأمور استبعادا مع أن شيئا من ذلك ليس بممتنع، وكذا فيما ذكروه.

[ ص: 583 ] قال: واعلم أن تجويز انخراق العادات لازم على الفلاسفة أو المسلمين والمتكلمين، وبين ذلك إلى أن قال: فليس لأبي الحسين إلا دعوى الضرورة في أول المسألة، وليس لنا في مقابلتها إلا المنع.

فإذا كانت هذه ثلاث قضايا ادعى منازعوه فيها العلم الضروري وهو يثبتها لإثبات رؤية موجود لا داخل العالم ولا خارجه كيف ينكر على منازعه فيما ادعاه من العلم البديهي بأن الموجود إذا كان خارج العالم لم يكن إلا منقسما أو حقيرا، مع أن هذا أظهر بوجوده.

التالي السابق


الخدمات العلمية