الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولهذا لما شرح الرازي طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود وقال: إنه لم يذكر فيها إبطال الدور، وذكر ما ذكره في إبطال الدور، ثم قال: "والإنصاف أن الدور معلوم البطلان بالضرورة، ولعل ابن سينا إنما تركه لذلك" والطريقة التي سلكها ابن سينا في إثبات واجب الوجود ليس هي طريقة أئمة الفلاسفة القدماء، كأرسطو وأمثاله، وهي عند التحقيق لا تفيد إلا إثبات مجرد واجب. وأما كونه مغايرا للأفلاك فهو مبني على نفي الصفات، وهو توحيدهم الفاسد الذي [ ص: 163 ] قد بينا فساده في غير هذا الموضع، ولهذا كان من سلك هذه الطريقة قد يفضي به الأمر إلى إنكار وجود واجب مغاير لوجود الممكنات، كما يقوله أهل الوحدة القائلون بوحدة الوجود من متأخري متصوفة هؤلاء الفلاسفة، كابن عربي وابن سبعين وأمثالهما، والقول بوحدة الوجود قول حكاه أرسطو وأتباعه عن طائفة من الفلاسفة وأبطلوه.

والقائلون بوحدة الوجود حقيقة قولهم هو قول ملاحدة الدهرية الطبيعية الذين يقولون: ما ثم موجود إلا هذا العالم المشهود، وهو واجب بنفسه. وهو القول الذي أظهره فرعون، لكن هؤلاء ينازعون أولئك في الاسم، فأولئك يسمون هذا الموجود بأسماء الله، وهؤلاء لا يسمونه بأسماء الله، وأولئك يحسبون أن الإله الذي أخبرت عنه الرسل هو هذا الموجود، وأولئك لا يقولون هذا، وأولئك لهم توجه إلى الوجود المطلق، وأولئك ليس لهم توجه إليه.

وفساد قول هؤلاء يعرف بوجوه: منها العلم بما يشاهد حدوثه كالمطر، [ ص: 164 ] والسحاب، والحيوان، والنبات، والمعدن، وغير ذلك من الصور والأعراض، فإن هذه يمتنع أن يكون وجودها واجبا لكونها كانت معدومة، ويمتنع أن تكون ممتنعة لكونها وجدت، فهذه مما يعلم بالضرورة أنها ممكنة، ليست واجبة ولا ممتنعة.

ثم إن الرازي جعل هذه الطريقة التي سلكها ابن سينا هي العمدة الكبرى في إثبات الصانع، كما ذكر ذلك في رسالة "إثبات واجب الوجود" و "نهاية العقول" و "المطالب العالية" وغير ذلك من كتبه. وهذا مما لم يسلكه أحد من أئمة النظار المعروفين من أهل الإسلام، بل لم يكن في هؤلاء من سلك هذه الطريقة في إثبات الصانع، فضلا عن أن يجعلها هي العمدة، ويجعل مبناها على ما سنذكره من المقدمات.

وقد رأيت من أهل عصرنا من يصنف في أصول الدين، ويجعلون عمدة جميع الدين على هذا الأصل، تبعا لهؤلاء، لكن منهم من لا يذكر دليلا أصلا، بل يجعل عمدته في نفي النهاية امتناع وجود ما لا [ ص: 165 ] يتناهى من غير حجة أصلا، ولا يفرق بين النوعين، ويرتب على ذلك جميع أصول الدين. ثم من هؤلاء المصنفين من يدخل مع أهل وحدة الوجود المدعين للتحقيق والعرفان، ويعتقد صحة قصيدة ابن الفارض لكونه قرأها على القونوي، وأعان على شرحها لمن شرحها من إخوانه وهم مع هذا يدعون أنهم أعظم العالم توحيدا وتحقيقا ومعرفة.

فلينظر العاقل ما هو الرب الذي أثبته هؤلاء، وما هو الطريق لهم إلى إثباته وتناقضهم فيه، فإن القائلين بوحدة الوجود يقولون بقدم العالم تصريحا أو لزوما، وذلك مستلزم للتسلسل، ودليله الذي أثبت به واجب الوجود وعمدته فيه نفي كل ما يسمى تسلسلا.

وأيضا ففيما صنفه من أصول الدين، يذكر حدوث العالم موافقة للمتكلمين المبطلين للتسلسل مطلقا في المؤثرات والآثار، ومع هؤلاء يقول بوحدة الوجود المستلزمة لقدمه وللتسلسل، موافقة لمتصوفة الفلاسفة الملاحدة كابن العربي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم. [ ص: 166 ]

وإذا كان ما ذكره ابن سينا وأتباعه في إثبات واجب الوجود صحيحا في نفسه، وإن كان لا حاجة إليه، ولا يحصل المقصود من إثبات الصانع به، وكان الرازي ونحوه يزعمون أن هذه الطريقة هي الطريقة الكبرى في إثبات واجب الوجود، وهي الطريقة التي سلكها الآمدي، مع أنه اعترض عليها باعتراض ذكر أنه لا جواب له عنه، فنحن نذكرها على وجهها.

التالي السابق


الخدمات العلمية