الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: مضمون هذا الكلام أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما ممكن لا يوجد إلا بغيره، كما قرر ذلك في الإشارتين، لكن قد قيل: إن في الكلام تكريرا لا يحتاج إليه، وإذا كان الممكن لا يوجد إلا بغيره فهو مفعول معلول، ويمتنع تسلسل المعلولات، لأن كل واحد من تلك الآحاد ممكن، والجملة متعلقة بتلك الممكنات، فتكون ممكنة غير [ ص: 170 ] واجبة أيضا، فتجب بغيرها، وما كان غير جملة الممكنات وآحادها فهو واجب، فهذا معنى قوله: "إما أن يتسلسل ذلك إلى غير النهاية، فيكون كل واحد من آحاد السلسلة ممكنا في ذاته، والجملة معلقة بها، فتكون غير واجبة أيضا وتجب بغيرها". لكن قوله: "إما أن يتسلسل" يحتاج أن يقال: وإما أن لا يتسلسل، فقيل إنه حذف ذلك اختصارا، إذ كان هو مقصوده، والمعنى: وإن لم تتسلسل الممكنات انتهت إلى واجب الوجود، وهو المطلوب.

ولو قيل بدل هذا اللفظ: إن تسلسل ذلك كان هو العبارة المناسبة لمطلوبه.

ثم ذكر شرح هذا الدليل على وجه تفصيلي، بعد أن ذكره محملا، فقال: إذا تسلسلت الممكنات، وكل منها معلول، فإنها تقتضي علة خارجة عن آحادها، لأنه إما يكون لها علة، وإما أن لا [ ص: 171 ] يكون، وإذا كان لها علة، فالعلة إما المجموع، وإما بعضه، وإما خارج عنه، والأقسام ممتنعة، إلا الأخير.

أما الأول وهو أن لا تقتضي علة أصلا فتكون الجملة واجبة غير معلولة، فهذا لا يتأتى، لأنها إنما تجب بآحادها، وما وجب بآحاده كان معلولا واجبا بغيره.

وهذا يقرره بعضهم كالرازي بوجهين:

أحدهما: أن الجملة مركبة من الآحاد، وآحادها غيرها، وما افتقر إلى غيره لم يكن واجبا بنفسه، وهو تقرير ضعيف، لأنه لو قدر أن كل واحد من الأجزاء واجب بنفسه، لم يمتنع أن تكون الجملة واجبة بنفسها، فإن مجموع الأمور الواجبة بنفسها لا يمتنع أن تكون غير محتاجة إلى أمور خارجة عنها، وهذا هو المراد بكونه واجبا بنفسه. ولكن هذا من جنس حجتهم على نفي الصفات بنفي التركيب، وهي حجة داحضة.

الوجه الثاني: أن كل واحد من الآحاد ممكن غير واجب، والجملة لا تحصل إلا بها، فما لا يحصل إلا بالممكن أولى أن يكون ممكنا، وهذا [ ص: 172 ] التقرير خير من ذاك، وهذا التقرير الثاني هو الذي ذكره السهروردي في "تلويحاته"، وهو أحد الوجهين اللذين ذكرهما الرازي، وهو أحد وجهي الآمدي أيضا.

قال السهروردي: "لما كان كل واحد من الممكنات يحتاج إلى العلة، فجميعها محتاج لأنه معلول الآحاد الممكنة، فيفتقر إلى علة خارجة عنه، وهي ممكنة، لأنها لو كانت ممكنة كانت من الجملة فتكون إذا واجبة الوجود".

وقد قررها الآمدي بوجه ثالث، وهو أنها إن كانت الجملة واجبة بذاتها فهو عين المطلوب، فقال: "الجملة إما أن تكون واجبة لذاتها، وإما أن تكون ممكنة، لا جائز أن تكون واجبة، وإلا لما [ ص: 173 ] كانت آحادها ممكنة، وقد قيل: إنها ممكنة" قال: "ثم وإن كانت واجبة فهو مع الاستحالة عين المطلوب".

وهذا الوجه الثاني الذي ذكره هو وجه ثالث، وليس هذا بمحصل للمقصود، لأنه حينئذ لا يلزم ثبوت واجب بنفسه خارج عن جملة الممكنات.

التالي السابق


الخدمات العلمية