الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولقائل أن يقول: إن أريد بكون الجملة ممكنة، أنها ممكنة غير واجبة، بل مفتقرة إلى أمر خارج عنها، فلذلك يوجب افتقارها إلى غيرها، وهو المطلوب.

وإن أريد أنها ممكنة بنفسها، واجبة بالآحاد المتسلسلة، فهذا السؤال هو في معنى السؤال الذي قبله، وإنما الاختلاف بينهما في أن الأول قال: "لم لا تكون واجبة بنفسها، بمعنى أنها غير مفتقرة إلى أمر خارج عن آحادها. بل المجموع واجب بآحاده الممكنة؟"

والثاني قال: لم لا تكون ممكنة بنفسها واجبة بآحادها. على وجه التسلسل.

لكن قد يقال: إنه في أحد التقديرين ادعى وجوب الهيئة الاجتماعية بنفسها مع إمكان الآحاد، وفي الثاني ادعى أن الهيئة الاجتماعية ممكنة [ ص: 176 ] بنفسها، لكنها واجبة بالآحاد المتسلسلة، ومعلوم أن كليهما باطل، والأول أظهر بطلانا من الثاني، فإنها إذا كانت الآحاد كلها ممكنة، والاجتماع نسبة وإضافة بينها، غايته أن يكون عرضا قائما بها، امتنع أن يكون واجبا بنفسه، فإن الموصوف الممكن يمتنع أن تكون صفته واجبة الوجود بنفسها.

وأما الثاني فلأن الهيئة الاجتماعية إذا كانت معلول الآحاد الممكنة، كانت أولى بالإمكان، فإن معلول الممكن أولى أن يكون ممكنا، وإن شئت قلت: المفتقر إلى الممكن أولى أن يكون ممكنا، والآحاد ليس فيها إلا ما هو ممكن، فلا يكون في الاجتماع وآحاده إلا ما هو ممكن لا يوجد بنفسه، وما لا يوجد بنفسه يمتنع أن يوجد به غيره، إذا لم يحصل له ما يوجد به، فإن وجوده في نفسه قبل وجود غيره به، فإذا لم يكن وجوده إلا بموجد يوجده، فلأن لا يكون وجود غيره به بدون الموجد الذي يوجده أولى وأحرى، وكل من الممكنات واجتماعها ليس موجودا بنفسه، فيمتنع أن يكون شيء منها موجدا لغيره، فامتنع ترجح بعضها ببعض، وترجح المجموع بالآحاد.

وفي الجملة، فكلا السؤالين يتضمن افتقار الاجتماع إلى [ ص: 177 ] الآحاد، فكلاهما لم يدع فيه إلا وجوبها بالآحاد، لم يدع وجوبا بالذات غير الوجوب بالآحاد، لكن الآمدي وهى هذا السؤال لما أضافه إلى غيره بعبارة أخرى واعتبار، ثم إنه اعترف بعدم قدرته على حله لما أورده من جهة نفسه بعبارة أخرى واعتبار آخر.

ومن أجاب عن الآمدي في الفرق بينهما يقول: السؤال الأول قيل فيه: إن المجموع واجب بنفسه، وذلك ممتنع. وهذا قيل فيه: إنه ممكن وجب بالآحاد.

وهذا الجواب بالفرق ضعيف، وذلك لأنه إذا قيل: هو ممكن واجب بالآحاد، فقد قيل: إنه واجب بتلك الآحاد، وتلك الآحاد كلها ممكنة، ومعلول الممكن أولى أن يكون ممكنا، فيمتنع أن يكون معلول الممكن واجبا بالممكن قبل وجوب الممكن، والممكن لا يجب إلا بالواجب بنفسه، بل ما كان واحد من الممكنات جزء علة لوجوده فهو ممكن، فكيف إذا كان كل من الممكنات التي لا نهاية لها جزء علة [ ص: 178 ] وجوده؟ فإن الاجتماع الذي يحصل للممكنات المتسلسلة، التي هي علل ومعلولات، يتوقف على كل واحد من تلك الأمور، التي كل منها علة معلول، فالاجتماع أولى بالإمكان وأبعد عن الوجوب، إن قدر أن له حقيقة غير الآحاد.

فثبت أنه إذا قدر سلسلة العلل والمعلولات، كل منها ممكن، فلا بد لها من أمر خارج عنها، وهذا أمر متفق عليه بين العقلاء، وهو من أقوى العلوم اليقينية والمعارف القطعية.

ولولا أن طوائف من متأخري النظار طولوا في ذلك وشكك فيه بعضهم، كالآمدي، والأبهري، لما بسطنا فيه الكلام.

التالي السابق


الخدمات العلمية