الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفتيا الأزهرية (في مسألة كلام الله) [ ص: 124 ] [ ص: 125 ] (قال في فتيا له تسمى "بالأزهرية") :

ومن قال : إن القرآن عبارة عن كلام الله تعالى ، وقع في محذورات :

أحدها : قولهم "إن هذا ليس هو كلام الله" ، فإن نفي هذا الإطلاق خلاف ما علم بالاضطرار من دين الإسلام ، وخلاف ما دل عليه الشرع والعقل .

والثاني : قولهم "عبارة" إن أرادوا أن هذا الثاني هو الذي عبر عن كلام الله تعالى القائم بنفسه ، لزم أن يكون كل تال معبرا عما في نفس الله تعالى . والمعبر عن غيره هو المنشئ للعبارة ، فيكون كل قارئ هو المنشئ لعبارة القرآن . وهذا معلوم الفساد بالضرورة .

وإن أرادوا أن القرآن العربي عبارة عن معانيه ، فهذا حق ، إذ كل كلام فلفظه عبارة عن معناه ، لكن هذا لا يمنع أن يكون الكلام متناولا للفظ والمعنى .

الثالث : أن الكلام قد قيل : إنه حقيقة في اللفظ مجاز في المعنى ، وقيل : حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ ، وقيل : بل حقيقة في كل منهما . والصواب الذي عليه السلف والأئمة أنه حقيقة في مجموعهما .

كما أن الإنسان قيل : هو حقيقة في البدن فقط ، وقيل : بل في الروح فقط . والصواب أنه حقيقة في المجموع . فالنزاع في الناطق كالنزاع في منطقه . [ ص: 126 ]

وإذا كان كذلك فالمتكلم إذا تكلم بكلام له لفظ ومعنى ، وبلغ عنه بلفظه ومعناه ، فإذا قيل : ما بلغه المبلغ من اللفظ إن هذا عبارة عن القرآن ، وأراد به المعنى الذي للمبلغ عنه نفى عنه اللفظ الذي للمبلغ عنه ، والمعنى الذي قام بالمبلغ . فمن لم يثبت إلا القرآن المسموع الذي هو عبارة عن المعنى القائم بالذات ، قيل له : فهذا الكلام المنظوم الذي كان موجودا قبل قراءة القراء هو موجود قطعا وثابت ، فهل هو داخل في العبارة والمعبر عنه أو غيرهما؟

فإن جعلته غيرهما بطل اقتصارك على العبارة والمعبر عنه ، وإن جعلته أحدهما لزمك إن لم تثبت إلا هذه العبارة والمعنى القائم بالذات أن تجعله نفس ما سمع من القراء ، فتجعل عين ما بلغه المبلغون هو عين ما سمعوه ، وهذا الذي فررت منه .

وأيضا فيقال له : القارئ المبلغ إذا قرأ فلا بد له فيما يقوم به من لفظ ومعنى ، وإلا كان اللفظ الذي قام به عبارة عن القرآن ، فيجب أن يكون عبارة عن المعنى الذي قام به ، لا عن معنى قام بغيره .

فقولهم "هذا هو العبارة عن المعنى القائم بالذات" أخطأوا من وجهين :

أخطأوا في بيان مذهبهم ، فإن حقيقة قولهم : أن اللفظ المسموع من القارئ حكاية اللفظ الذي عبر به عن معنى القرآن مطلقا ، وذلك أن اللفظ عبارة عن المعنى القائم بالذات ، ولفظه ومعناه حكاية عن ذلك اللفظ والمعنى . [ ص: 127 ]

ثم إذا عرف مذهبهم بقي خطؤهم في أصول :

منها : زعمهم أن معاني القرآن معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر ، وأن معنى التوراة والإنجيل والقرآن معنى واحد ، ومعنى آية الكرسي معنى آية الدين . وفساد هذا معلوم بالضرورة .

ومنها : زعمهم أن القرآن العربي لم يتكلم الله به .

(وأطال في ذلك وبرهن عليه بما يطول هنا ذكره ، وقال بعد ذلك) :

وأول من قال هذا في الإسلام عبد الله بن سعيد بن كلاب ، وجعل القرآن المنزل حكاية عن ذلك المعنى . فلما جاء الأشعري واتبع ابن كلاب في أكثر مقالته ناقشه على قوله : "إن هذا حكاية عن ذلك" ، وقال : الحكاية تماثل المحكي . فهذا اللفظ يصح من المعتزلة ، لأن ذلك المخلوق حروف وأصوات عندهم وحكاية مثله ، وأما على أصل ابن كلاب فلا يصح أن يكون حكاية . بل نقول : "إنه عبارة عن المعنى" .

فأول من قال بالعبارة الأشعري . وكان الباقلاني -فيما ذكر عنه- إذا درس مسألة القرآن يقول : هذا قول الأشعري ولم يتبين صحته ، أو كلاما هذا معناه .

وكان الشيخ أبو حامد الإسفراييني يقول : مذهب الشافعي وسائر الأئمة في القرآن خلاف قول الأشعري ، وقولهم هو قول الإمام أحمد . [ ص: 128 ]

وكذلك أبو محمد الجويني ذكر أن الأشعري خالف في مسألة الكلام قول الشافعي وغيره ، وأنه أخطأ في ذلك .

وكذلك سائر أئمة أصحاب مالك والشافعي وغيرهما يذكرون قولهم في حد الكلام وأنواعه من الأمر والنهي والخبر العام والخاص وغير ذلك ، ويجعلون الخلاف في ذلك مع الأشعري ، كما هو مبين في أصول الفقه التي صنفها أئمة أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية