الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كتاب الحجر [ ص: 254 ] قال ( الأسباب الموجبة للحجر ثلاثة : الصغر ، والرق ، والجنون ، فلا يجوز تصرف الصغير إلا بإذن وليه ، ولا تصرف العبد إلا بإذن سيده ، ولا تصرف المجنون المغلوب بحال ) . أما الصغير فلنقصان عقله ، غير أن إذن الولي آية أهليته ، والرق لرعاية حق المولى كي لا يتعطل منافع عبده . ولا يملك رقبته بتعلق الدين به ، غير أن المولى بالإذن رضي بفوات حقه ، والجنون لا تجامعه الأهلية فلا يجوز تصرفه بحال ، أما العبد فأهل في نفسه والصبي ترتقب أهليته فلهذا وقع الفرق . قال ( ومن باع من هؤلاء شيئا وهو يعقل البيع ويقصده فالولي بالخيار ، إن شاء أجازه إذا كان فيه مصلحة ، وإن شاء فسخه ) لأن التوقف في العبد لحق المولى فيتخير فيه ، وفي الصبي والمجنون نظرا لهما فيتحرى مصلحتهما فيه ، ولا بد أن يعقلا البيع ليوجد ركن العقد فينعقد موقوفا على الإجازة ، والمجنون قد يعقل البيع ويقصده وإن كان لا يرجح المصلحة على المفسدة وهو المعتوه الذي يصلح وكيلا عن غيره كما بينا في الوكالة . فإن قيل : التوقف عندكم في البيع . أما الشراء فالأصل فيه النفاذ على المباشر . [ ص: 255 ] قلنا : نعم إذا وجد نفاذا عليه كما في شراء الفضولي ، وهاهنا لم نجد نفاذا لعدم الأهلية أو لضرر المولى فوقفناه . قال ( وهذه المعاني الثلاثة توجب الحجر في الأقوال دون الأفعال ) لأنه لا مرد لها لوجودها حسا ومشاهدة [ ص: 256 ] بخلاف الأقوال ، لأن اعتبارها موجودة بالشرع والقصد من شرطه ( إلا إذا كان فعلا يتعلق به حكم يندرئ [ ص: 257 ] بالشبهات كالحدود والقصاص ) فيجعل عدم القصد في ذلك شبهة في حق الصبي والمجنون .

التالي السابق


( كتاب الحجر ) أورد الحجر عقيب الإكراه لأن في كل منهما سلب ولاية المختار عن الجري على موجب الاختيار ، إلا أن الإكراه لما كان أقوى تأثيرا لأن فيه سلبها عمن له اختيار صحيح وولاية كاملة ، بخلاف الحجر كان أحق بالتقديم ، كذا في الشروح .

ومن محاسن الحجر أن فيه شفقة على خلق الله عز وجل وهي أحد قطبي أمر الديانة ، والآخر التعظيم لأمر الله تعالى ، وتحقيق ذلك أن الله تعالى خلق الورى وفاوت بينهم في الحجر ، فجعل بعضهم أولي الرأي والنهى ، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى وجعل بعضهم مبتلى ببعض أسباب الردى فيما يرجع إلى معاملات الدنيا ، كالمجنون الذي هو عديم العقل ، والمعتوه الذي هو ناقص العقل ، فأثبت الحجر عليهما عن التصرفات نظرا من الشرع لهما ، لأن الظاهر من تصرفهما ضرر يلزمهما ، إذ ليس لهما عقل كامل يردعهما وتمييز وافر يردهما ، وكذلك حجر الصبي والرقيق .

أما الصبي ففي أول أحواله كالمجنون وفي آخرها كالمعتوه ، فما هو المتوقع من ضررهما يتوقع في حق الصبي .

وأما الرقيق فإنه يتصرف في مال غيره لأنه لا مال له ، ولا يستعمل من يتصرف في مال الغير مثل استعماله في مال نفسه عادة ، فسد باب التصرف على الرقيق بالحجر لرقه نظرا للمولى ، ثم إن الحجر في اللغة هو المنع فإنه مصدر حجر عليه القاضي إذا منعه . وفي الشريعة هو المنع عن التصرف في حق شخص مخصوص وهو الصغير والرقيق والمجنون ، كذا في النهاية والعناية . أقول : فيه قصور .

أما أولا فلأن الحجر في الشريعة ليس هو المنع عن [ ص: 254 ] التصرف مطلقا بل هو منع عن التصرف قولا لا فعلا كما يفصح عنه ما سيأتي في الكتاب من أن هذه المعاني الثلاثة يعني الصغر والرق والجنون توجب الحجر في الأقوال دون الأفعال . وأما ثانيا فلأن المحجور عليه غير منحصر في الصغير والرقيق والمجنون . بل المفتي الماجن والمتطبب الجاهل والمكاري المفلس محجور عليهم عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ، كما صرحوا بذلك كله في عامة المعتبرات ، وسيأتي في الكتاب شيئا فشيئا ، فقوله في ذيل التعريف وهو الصغير والرقيق والمجنون تفسير زائد وتقييد كاسد . وبالجملة في التعريف المزبور تقصير من حيث إطلاق المقيد وتقييد المطلق .

وقال في الكافي : الحجر في اللغة المنع . وفي الشرع منع عن التصرف قولا بصغر ورق وجنون انتهى .

أقول : فيه تدارك للمحذور الأول ، ولكن يبقى المحذور الثاني على حاله كما لا يخفى ، فالأول ما ذكر في معراج الدراية فإنه قال فيه : ثم الحجر لغة المنع مصدر حجر عليه . وشرعا منع مخصوص وهو المنع من التصرف قولا لشخص معروف مخصوص وهو المستحق للحجر بأي سبب كان انتهى تدبر

( قوله الأسباب الموجبة للحجر ثلاثة : الصغر ، والرق ، والجنون ) هذه الثلاثة بالاتفاق . وألحق بما اشتق منها ثلاثة أخرى بالاتفاق أيضا وهي : المفتي الماجن ، والمتطبب الجاهل ، والمكاري المفلس . وأما حجر المديون والسفيه بعدما بلغ رشيدا فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ، كذا في الشروح .

أقول : قد أطبقت كلمة الفقهاء في كتب الفروع على إدراج العته في الجنون [ ص: 255 ] وجعل الأسباب الأصلية المتفق عليها ثلاثة وهي : الصغر ، والرق ، والجنون .

وفي كتب الأصول على جعل العته قسيما للجنون كسائر الأمور المعترضة على الأهلية ومخالفا له في أكثر الأحكام ، فقد خالف اصطلاحهم في الفروع اصطلاحهم في الأصول وهذا من النوادر ( قوله وهذه المعاني الثلاثة ) التي هي الصغر والرق والجنون توجب الحجر في الأقوال ، حتى أوجب التوقف في الأقوال التي تردد بين النفع والضر كالبيع والشراء بطريق العموم بين الصغير والمجنون والعبد .

وأوجب الحجر من الأصل بالإعدام في حكم أقوال تتمحض ضررا كالطلاق والعتاق في حق الصغير ، والمجنون دون العبد فإنه يملك الطلاق ، كذا في النهاية والكفاية . قال صاحب العناية في حل هذا المحل : وهذه المعاني الثلاثة : يعني الصغر والرق والجنون توجب الحجر في الأقوال : يعني ما تردد منها بين النفع والضر كالبيع والشراء : أي هذه المعاني توجب التوقف على الإجازة على العموم بين الصغير والمجنون والعبد ، وأما ما يتمحض منها ضررا كالطلاق والعتاق فإنه يوجب الإعدام من الأصل في حق الصغير والمجنون دون العبد ، وأما ما يتمحض منها نفعا كقبول الهبة والهدية والصدقة فإنه لا حجر فيه على العموم انتهى كلامه .

أقول : خصص الشارح المزبور الأقوال المذكورة في مسألة الكتاب بالأقوال المترددة بين النفع والضر حيث قال : أعني ما تردد منها بين النفع والضر كالبيع والشراء ، فلما أخرج عن الأقوال ما تمحض نفعا وما تمحض ضررا وكان فائدة إخراج الأول ظاهرة لعدم ثبوت الحجر فيها أصلا دون فائدة ثبوت إخراج الثاني لثبوت الحجر فيه أيضا في حق الصغير والمجنون خصص معنى إيجاب الحجر أيضا حيث قال : أي هذه المعاني توجب التوقف على الإجازة على العموم بين الصغير والمجنون والعبد ، وأشار بذلك إلى عدم ثبوت الحجر بهذا المعنى المخصوص فيما يتمحض ضررا من الأقوال .

ونبه عليه بقوله : وأما ما يتمحض منها ضررا كالطلاق والعتاق فإنه يوجب الإعدام من الأصل في حق الصغير والمجنون دون العبد ، ولا يذهب عليك أن عبارة الكتاب مع عدم مساعدتها لشيء من التخصيصين المذكورين يلزم إذ ذاك محذوران : أحدهما أنه على ذلك المعنى الذي ذهب إليه الشارح المزبور يصير مآل معنى هذه المسألة وهي قوله وهذه المعاني الثلاثة توجب الحجر في الأقوال معنى المسألة السابقة وهي قوله : ومن باع من هؤلاء شيئا أو اشتراه وهو يعقل البيع ويقصده فالولي بالخيار ، إن شاء أجازه إذا كان فيه مصلحة ، وإن شاء [ ص: 256 ] فسخه فلا يكون في إعادة الثانية فائدة إلا تجرد كونها توطئة لقوله دون الأفعال . وثانيهما أنه لا يناسب حينئذ إدراج ما يتمحض ضررا من الأقوال كالطلاق والعتاق ، والإقرار في المسائل المتفرعة على هذا الأصل وهو قوله وهذه المعاني الثلاثة توجب الحجر في الأقوال ، وقد أدرجه فيها في الكتاب حيث قال فيما بعد : والصبي والمجنون لا يصح عقودهما ولا إقرارهما ولا يقع طلاقهما ولا عتاقهما .

وصرح الشارح المزبور وغيره هناك بأن تلك المسائل ذكرت تفريعا على الأصل المذكور ، وقد وقع التصريح بفاء التفريع في مختصر القدوري في قوله فالصبي والمجنون لا يصح عقودهما ولا إقرارهما ، ولا يقع طلاقهما ولا عتاقهما بعد قوله وهذه المعاني الثلاثة توجب الحجر في الأقوال دون الأفعال فتعين التفريع بنفس عبارته .

فالوجه عندي أن اللام في الأقوال في قوله توجب الحجر في الأقوال للجنس ، وأن المراد بإيجاب الحجر في قوله توجب الحجر في الأقوال ما يعم إيجاب التوقف على الإجازة كما في الأقوال المترددة بين النفع والضر ، وإيجاب الإعدام من الأصل كما في الأقوال المتمحضة للضرر فلا يحتاج إلى إخراج هذا القسم : أعني ما تمحض ضررا عن الأقوال المذكورة في الأصل المسفور ، بل هذا القسم أيضا داخل في جنس الأقوال فيشمله ذلك الأصل فيناسب تفريع المسائل الآتية بأسرها عليه ، ولا يضر عدم تحقق الحجر في الأقوال التي تتمحض نفعا ، لأن تحقق الحجر في جنس الأقوال لا يقتضي تحققه في جميع أفرادها فصار الأصل المزبور مجملا وما فرع عليه من المسائل تبيينا له ، فما جعل في تلك المسائل مما يحجر فهو داخل تحت حكم الحجر ، وما لا فلا تأمل تقف ( قوله بخلاف الأقوال لأن اعتبارها موجودة بالشرع والقصد من شرطه ) أقول : فيه إشكال ، لأن الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص واليمين والنذر كلها من الأقوال المعتبرة في الشرع مع أن القصد ليس بشرط لاعتبارها في الشرع ، ألا يرى أن طلاق العاقل البالغ هازلا ، وكذا عتاق الحر البالغ العاقل هازلا ، وكذا يمينه هازلا ونذره هازلا صحيح معتبر في الشرع على ما صرحوا به في مواضعها سيما في مباحث الهزل من كتب الأصول ، مع أن الهزل ينافي القصد لا محالة ، فإن عدم القصد والإرادة معتبر في نفس مفهوم الهزل .

وقال في العناية : فإن قيل : الأقوال موجودة حسا ومشاهدة فما بالها شرط اعتبارها موجودة شرطا بالقصد دون الأفعال ؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أن الأقوال الموجودة حسا ومشاهدة ليست عين مدلولاتها بل هي دلالات عليها ، ويمكن تخلف المدلول عن دليله فيمكن أن يجعل القول الموجود بمنزلة المعدوم بخلاف الأفعال فإن الموجود منها عينها ، فبعدما وجدت لا يمكن أن تجعل غير موجودة . والثاني أن القول قد يقع صدقا وقد يقع كذبا وقد يقع جدا وقد يقع هزلا [ ص: 257 ] فلا بد من القصد ; ألا يرى أن القول من الحر البالغ العاقل إذا وجد هزلا لم يعتبر شرعا فكذا من هذه الثلاثة ، بخلاف الأفعال فإنها حيث وقعت وقعت حقيقة فلا يمكن تبديلها انتهى .

أقول : في كل من وجهي الجواب نظر . أما في الأول فإنه غير متمش في الإنشاءات لأنها إيجادات لا يمكن تخلف مدلولاتها عنها ، ولا يخفى أن أكثر الأقوال المعتبرة في الشرع في إفادة الأحكام الشرعية من قبيل الإنشاءات فلا يتم التقريب .

وأما في الثاني فلأنه منتقض بما تساوى فيه الجد والهزل من الأقوال كالطلاق والعتاق ونحوهما تدبر تفهم




الخدمات العلمية