الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      ابن عبد المؤمن

                                                                                      السلطان الكبير أبو يعقوب يوسف ابن السلطان عبد المؤمن بن [ ص: 99 ] علي ، صاحب المغرب .

                                                                                      تملك بعد أخيه المخلوع محمد لطيشه ، وشربه الخمر ، فخلع بعد شهر ونصف ، وبويع أبو يعقوب ، وكان شابا مليحا ، أبيض بحمرة ، مستدير الوجه ، أفوه ، أعين ، تام القامة ، حلو الكلام فصيحا ، حلو المفاكهة ، عارفا باللغة والأخبار والفقه ، متفننا ، عالي الهمة ، سخيا ، جوادا ، مهيبا ، شجاعا ، خليقا للملك .

                                                                                      قال عبد الواحد بن علي التميمي صح عندي أنه كان يحفظ أحد الصحيحين ، أظنه البخاري . قال : وكان سديد الملوكية ، بعيد الهمة ، جوادا ، استغنى الناس في أيامه . ثم إنه نظر في الطب والفلسفة ، وحفظ أكثر كتاب " الملكي " ، وجمع كتب الفلاسفة ، وتطلبها من الأقطار ، وكان يصحبه أبو بكر محمد بن طفيل الفيلسوف ، فكان لا يصبر عنه وسمعت أبا بكر بن يحيى الفقيه ، سمعت الحكم أبا الوليد بن رشد الحفيد يقول : لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب ، وجدته هو وابن طفيل فقط ، فأخذ ابن طفيل يطريني ، فكان أول ما فاتحني أن قال : ما رأيهم في السماء ؟ أقديمة أم حادثة ؟ فخفت ، وتعللت ، وأنكرت الفلسفة ، ففهم ، فالتفت إلى ابن طفيل ، وذكر قول أرسطو فيها ، وأورد حجج أهل الإسلام ، [ ص: 100 ] فرأيت منه غزارة حفظ ، لم أكن أظنها في عالم ، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت ، ثم أمر لي بخلعة ومال ومركوب .

                                                                                      وزر له أخوه عمر أياما ، ثم رفع منزلته عن الوزارة ، وولى إدريس بن جامع ، إلى أن استأصله سنة 577 ، ثم وزر له ولده يعقوب الذي تسلطن ، وكان له من الولد ستة عشر ابنا .

                                                                                      وفي وسط أيامه خرج عليه سبع بن حيان ومززدغ في غمارة فحاربهما ، وأسرهما ، ودخل الأندلس في سنة سبع وستين للجهاد ، ويضمر الاستيلاء على باقي الجزيرة ، فجهز الجيش إلى محمد بن سعد بن مردنيش ، فالتقوا بقرب مرسية ، فانكسر محمد ، ثم ضايقه الموحدون بمرسية مدة ، فمات ، وأخذ أبو يعقوب بلاده ، ثم سار ، فنازل مدينة وبذى فحاصرها أشهرا ، وكادوا أن يسلموها من العطش ، ثم استسقوا -لعنهم الله- فسقوا ، وامتلأت صهاريجهم ، فرحل ، وهادن الفنش وأقام بإشبيلية سنتين ونصفا ودانت له الأندلس ، ثم رجع إلى السوس [ ص: 101 ] سنة 571 لتسكن فتن وقعت بين البربر ، ثم سار في سنة 75 حتى أتى مدينة قفصة ، فحاصرها ، وقبض على ابن الرند . وهادن صاحب صقلية ، على أن يحمل كل سنة ضريبة على الفرنج فبعث إلى أبي يعقوب تحفا ، منها قطعة ياقوت معدومة بقدر استدارة حافر فرس ، فكللوا المصحف العثماني بها .

                                                                                      قال الحافظ أبو بكر بن الجد : كنا عنده ، فسألنا : كم بقي النبي -صلى الله عليه وسلم- مسحورا ؟ فشكينا . فقال : بقي شهرا كاملا ، صح ذلك . وكان فقيها يتكلم في المذاهب ، ويقول : قول فلان صواب ، ودليله من الكتاب والسنة كذا وكذا .

                                                                                      قال عبد الواحد لما تجهز لغزو الروم ، أمر العلماء أن يجمعوا أحاديث في الجهاد تملى على الجند ، وكان هو يملي بنفسه ، وكبار [ ص: 102 ] الموحدين يكتبون في ألواحهم . وكان يسهل عليه بذل الأموال سعة الخراج ، كان يأتيه من إفريقية في العام مائة وخمسون وقر بغل . واستنفر في سنة تسع وسبعين أهل السهل والجبل والعرب ، فعبر إلى الأندلس ، وقصد شنترين بيد ابن الريق لعنه الله ، فحاصرها مدة ، وجاء البرد ، فقال : غدا نترحل ، فكان أول من قوض مخيمه علي ابن القاضي الخطيب ، فلما رآه الناس ، قوضوا أخبيتهم ، فكثر ذلك ، وعبر ليلتئذ العسكر النهر ، وتقدموا خوف الازدحام ، ولم يدر بذلك أبو يعقوب ، وعرفت الروم ، فانتهزوا الفرصة ، وبرزوا ، فحملوا على الناس ، فكشفوهم ، ووصلوا إلى مخيم السلطان ، فقتل على بابه خلق من الأبطال ، وخلص إلى السلطان ، فطعن تحت سرته طعنة مات بعد أيام منها ، وتدارك الناس ، فهزموا الروم إلى البلد ، وهرب الخطيب ، ودخل إلى صاحب شنترين ، فأكرمه ، واحترمه ، ثم أخذ يكاتب المسلمين ، ويدل على عورة العدو ، فأحرقوه ، ولم يسيروا بأبي يعقوب إلا ليلتين ، وتوفي ، وصلي عليه ، وصبر في تابوت ، وبعث إلى تينمل فدفن مع أبيه وابن تومرت .

                                                                                      مات في سابع رجب سنة ثمانين وخمسمائة وبايعوا ابنه يعقوب .

                                                                                      وفيها مات أحمد بن المبارك بن درك الضرير ، وصدر الدين عبد الرحيم ابن شيخ الشيوخ إسماعيل بن أبي سعد ، وأبو الفرج محمد بن أحمد ابن الشيخ أبي علي بن نبهان الأديب ، وشيخ النحو أبو بكر محمد بن [ ص: 103 ] أحمد الخدب ، ومحمد بن حمزة بن أبي الصقر القرشي المعدل ، ومحمود بن حمكا الأصبهاني .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية