الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون )

                          [ ص: 192 ] لما بين تعالى في الآية السابقة ما أعده للكافرين الذين قامت عليهم الحجة فجحدوا بها ، أراد أن يبين في هذه الآية نصيب مقابل هؤلاء ، وهم الذين ظهر لهم الدليل فآمنوا ، ولاح لهم نور الهداية فاهتدوا ، فالكلام متصل بعضه ببعض . ولذلك عطف الجملة على ما قبلها ؛ لأنها متممة لفائدتها ، إذ لا بد بعد بيان جزاء الكافرين ، من بيان جزاء المؤمنين ، والإرشاد ترهيب وترغيب ، والخطاب يصح أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، وأن يكون عاما لكل من يسمع الأمر من أهله ، وقالوا : إن الأخير هو المعروف في لسان العرب ، والمفهوم عندهم من أمثال هذا الخطاب ، كقوله تعالى : ( نبئ عبادي ) ( 15 : 49 ) وقوله : ( واضرب لهم مثلا ) ( 36 : 13 ) فهو في عمومه جار مجرى الأمثال ، والمخاطب الأول به هو الرسول على كل حال .

                          قال تعالى : ( وبشر الذين آمنوا ) ولم يذكر بماذا آمنوا ؛ لأن متعلق الإيمان كان معروفا عند المخاطبين ، وهو الله تعالى وصفاته التي ورد بها النقل الصريح ، وأثبتها العقل الصحيح ، والوحي ومن جاء به ، والبعث والجزاء ، فهذه هي الأصول التي كان يدعو إليها الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فمن صدقهم فيها كان مؤمنا ويصدق بما يتبع ذلك من التفصيل .

                          ( قال الأستاذ ) : ولا بد في تحقيق الإيمان من اليقين ، ولا يقين إلا ببرهان قطعي لا يقبل الشك والارتياب ، ولا بد أن يكون البرهان على الألوهية والنبوة عقليا ، وإن كان الإرشاد إليها سمعيا ، ولكن ( لا ينحصر البرهان العقلي المؤدي إلى اليقين في تلك الأدلة التي وضعها المتكلمون وسبقهم إلى كثير منها الفلاسفة الأقدمون ، وقلما تخلص مقدماتها من خلل ، أو تصح طرقها من علل ، بل قد يبلغ أمي علم اليقين بنظرة صادقة في ذلك الكون الذي بين يديه ، أو في نفسه إذا تجلت بغرائبها عليه ، وقد رأينا من أولئك الأميين ما لا يلحقه في يقينه آلاف من أولئك المتفننين ، الذين أفنوا أوقاتهم في تنقيح المقدمات وبناء البراهين ، وهم أسوأ حالا من أدنى المقلدين ) .

                          ( وأقول ) : كان الأستاذ قد أطلق اشتراط البرهان العقلي هنا كما أطلقه في مواضع أخرى تقدم بعضها والبحث فيه ، ثم قيده هنا بما بين به خطأ بعض المتكلمين في اشتراطهم البراهين المنطقية التي سموها قطعية على ما فيها من خلل وعلل ، والحق أن اطمئنان القلب بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من غير تردد ولا اضطراب كاف في النجاة في الآخرة ، وأن أفضل الأدلة ما أرشد إليه القرآن من النظر في آيات الله تعالى في الأنفس والآفاق ، فبداهة العقل فيه كافية عند سليم الفطرة الذي لم يبتل بشكوك الفلاسفة وجدليات المتكلمين ولا بتقليد المبطلين .

                          هذا وإن إطلاق الإيمان وذكر المؤمنين وما أعد لهم من غير وصله بذكر متعلقاته معهود [ ص: 193 ] في القرآن ؛ لأن المتعلق معلوم للسامعين كما قلنا ، وهو بالنسبة لمن لم يؤمنوا : ما دعاهم إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - إجمالا من الأصول ، وأما المؤمنون فقد عرفوه مفصلا تفصيلا .

                          ثم وصف المؤمنين الذين يستحقون البشارة بقوله : ( وعملوا الصالحات ) وأطلق في هذا أيضا كما أطلق في كثير من الآيات ؛ لأن العمل الصالح معروف عند الناس بالإجمال ، وذلك كاف في الترغيب فيه وجعله تابعا للإيمان متصلا به ولازما من لوازمه ، وبين الأعمال الصالحة بالتفصيل في آيات كثيرة كقوله تعالى : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) إلخ وكالآيات في أول سورة ( المؤمنون ) وآخرها وآخر سورة ( الفرقان ) وأوائل سورة ( المعارج ) وغير ذلك ، كأن الله تعالى يقول : إن العمل الصالح معروف عند الناس ؛ لأنه أودع في نفوسهم ما يميزون به بين الخير والشر ، ولكن بعضهم يضل بانحراف يطرأ على نفسه فيخرجها عن الاعتدال الفطري ثم يضل بضلاله آخرون ، فتكون التقاليد والعادات الناشئة عن هذا الضلال هي الميزان عند الضالين في معرفة الصلاح والفساد ، والخير والشر لا أصل الهداية الفطرية ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : ( ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) ) رواه الشيخان وغيرهما ، يعني أن الإنسان لو ترك ونفسه لاهتدى إلى الحق مادام بعيدا عن التقاليد والعادات ، وقد بلغ فساد الطباع وانحراف الفطرة في بعض الأمم مبلغا كادوا يخرجون به عن طور البشر ، كمتنطعي البراهمة إذ ذهبوا إلى أن كمال الأرواح وسعادتها إنما هو في تعذيب الأبدان وحرمانها من لذاتها ؛ ولذلك جدوا في البعد عن اللذات الجسمانية بأنواعها فمالوا عن سنن الاعتدال ، ومنوا أبدانهم وعقولهم بالفساد والاعتلال ، وكبعض كفرة العرب وطائفة من البراهمة ، إذ زعموا أنه لا خير إلا في اللذة البدنية ولا شر إلا في الألم الجسداني ، فالسعادة والكمال عندهم في البعد عن الآلام البدنية ، والتمتع بالشهوات الحسية ، فمثل هؤلاء المرضى النفوس المحرومين من الكمال الروحي والعقلي كمثل من غلبت عليه الصفراء فصار يذوق الحلو مرا ، وإن من المرضى من يشتهي في طور النقه ما لا يشتهي في حال الصحة والاعتدال ، وكذلك الحبالى في مدة الوحم :


                          يرى الجبناء أن الجبن حزم وتلك خديعة الطبع اللئيم



                          فالخير والشر والصلاح والفساد والحق والباطل والفضيلة والرذيلة كل ذلك معروف في الجملة حتى عند الأشرار ، ولذلك يدعون الخير والصلاح وينكرون ما هم عليه ، فإطلاق القول بذكر الأعمال الصالحات ليس مبهما عندهم ، ولا خطابا بغير مفهوم ، وإنما يحتاج معتل الفطرة إلى التفصيل في ذلك ، وذكر الأمارات والدلائل التي تميز بين الصالحين والفاسقين ، والمحقين والمبطلين ، ولهذا نزلت آيات البيان والتفصيل التي أشرنا إلى بعضها آنفا ، وبها ينقطع تلبيس الأغبياء ، واعتذار الجهلاء ، وحق القول بأن الذي يستحق هذه البشارة هو من جمع [ ص: 194 ] بين الإيمان والعمل الصالح الذي ترشد إليه الفطرة السليمة ، ويهدي إلى تحديده الكتاب العزيز وسنة الرسول المتبعة .

                          بشرهم ( أن لهم جنات ) ورد لفظ الجنة والجنات كثيرا في مقابلة النار ، والجنة في اللغة : البستان ، والجنات جمعها ، وليس المراد بهما مفهومهما اللغوي فقط ، وإنما هما دارا الخلود في النشأة الآخرة ، فالجنة دار الأبرار والمتقين ، والنار دار الفجار والفاسقين ، فنؤمن بهما بالغيب ولا نبحث في حقيقة أمرهما ، ولا نزيد على النصوص القطعية فيهما شيئا ؛ لأن عالم الغيب لا يجري فيه القياس .

                          ومما وصف الله تعالى به الجنات قوله : ( تجري من تحتها الأنهار ) والمناسبة ظاهرة ، فإن البساتين حياتها بالأنهار ( قال شيخنا ) : وهل سميت دار النعيم جنة وجنات على سبيل التشبيه وذكرت الأنهار ترشيحا له أم سميت بذلك ؛ لأنها مشتملة على الجنات تسمية للكل باسم البعض ؟ الله أعلم بمراده ، وأقول : لو لم يرد في هذا المقام إلا ذكر الجنة أو الجنات لوجب التفويض وامتنع الترجيح ، أما وقد ذكر في آيات أخرى أنواع من الشجر المثمر وذكر الثمرات ، فقد تعين ترجيح الشق الثاني ، وإلا كان هربنا من تشبيه أسرى الألفاظ عالم الغيب بعالم الشهادة من كل وجه ، إلى تأويلات الباطنية المعطلين لدلالتها من كل وجه .

                          ألم تر إلى ربك كيف ذكر من شأن أهل تلك الجنات فيها أنهم ( كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا ) كلمة " من " الأولى للابتداء والثانية للتبعيض ، أي كلما رزقوا من الجنات رزقا من بعض الثمار ( قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ) أي هذا الذي وعدنا به في الدنيا جزاء على الإيمان والعمل الصالح ، فهو كقوله تعالى : ( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ) ( 39 : 74 ) وذهب الجلال وغيره إلى اختيار أن معناه تشبيه ثمرات الآخرة بثمرات الدنيا ؛ لأنها مثلها في اللون والشكل والرائحة ، وإن كانت تفضلها في الطعم واللذة فقوله تعالى : ( وأتوا به متشابها ) بيان لسبب القول على هذا التفسير ، أي أتوا بما ذكر من الرزق في الدنيا والآخرة متشابها بعضه يشبه بعضا ، ومحصله : أنهم عندما يؤتون برزق الجنة يبادرون إلى الحكم بأنه غير ما وعدوا به وأنه عين رزق الدنيا ؛ لأن التشابه يكون سبب الاشتباه عليهم ، ولكنهم يعرفون الفرق بعد ذلك بالطعم ؛ لأن فرقا عظيما بين لذة رزق الدنيا ورزق الجنة ، والتعبير بـ " كلما " ينافي هذا التفسير ؛ لأن الاشتباه إنما يكون في المرة الأولى ، ثم يعرفون التفاوت معرفة تذهب به وتمنع من الحكم بأن هذا عين ذاك ، أما بالنسبة لأفراد النوع الواحد من الثمار فبالاختيار ، وأما بالنسبة لما بعد النوع الأول من الأنواع فبالقياس عليه ، وما ذهب إليه الجلال مناف للبلاغة في المعنى أيضا ؛ لأن تشابه رزقي الدنيا والآخرة في الألوان والروائح ، واختلافه في الطعم فقط ليس فيه كبير تشويق ، [ ص: 195 ] لأن اللذة في التنقل ، ثم إن أطوار الجنة مخالفة لأطوار الدنيا ، والتشويق للناس إنما يكون بحسب ما عهدوا واعتادوا وألفوا ، وإننا نعلم أن الأكل في الدنيا لأجل حفظ البنية من الانحلال ، ولا انحلال في دار الخلد والبقاء ، فلا بد أن يكون الأكل والشرب هناك على ما ورد لحكمة أخرى ، أو هو لتحصيل لذة لا نعرفها ؛ لأنها من أحوال عالم الغيب ، وإنما نؤمن بما ورد ونفوض أمر حقيقته وحكمته إلى الله تعالى ، ومما ورد أنه لذة أعلى من لذات الدنيا .

                          أقول : بل قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ( ( ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي ) ) وفي حديث الصحيحين المرفوع عن الله - عز وجل - ( ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ) ) وهو تفسير قوله تعالى : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) ( 32 : 17 ) .

                          وذهب بعض المفسرين إلى ما قلناه أولا من أن ذلك الرزق هو عين ما وعدوا به جزاء على أعمالهم ، فكلما رزقوا ثمرة منه يذكرون الوعد الإلهي شكرا لله على توفيقهم لذلك العمل الذي له أعد هذا الجزاء ، كما تفيده آية ( وقالوا الحمد لله ) التي ذكرناها آنفا ، فهو من قبيل ارتباط الموعود به بالموعود عليه كأن الأعمال عين الجزاء ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ( 99 : 7 - 8 ) وقوله تعالى بعد ذلك : ( وأتوا به متشابها ) تأكيد وتقرير لما تضمنه قولهم ، وهذا هو الراجح الذي اختاره شيخنا ، وهنالك قول ثالث : وهو أن رزق الجنة وثمرها يتشابه على أهلها في صورته ، ويختلف في طعمه ولذته ، وهو المتبادر من اللفظ .

                          ثم قال : ( ولهم فيها أزواج مطهرة ) أي مبالغ في تطهيرهن وتزكيتهن فليس فيهن ما يعاب من خبث جسدي حتى ما هو في الدنيا طبيعي كالحيض والنفاس ، ولا نفسي كالمكر والكيد وسائر مساوئ الأخلاق ، لأنهن طهرن كل نوع من أنواع التطهير ، ونساء الجنات من المؤمنات الصالحات وهن المعروفات في القرآن بالحور العين ، وصحبة الأزواج في الآخرة كسائر شئونها الغيبية نؤمن بما أخبر به الله تعالى منها لا نزيد فيه ولا ننقص منه ، ولا نبحث في كيفيته ، وإنما نعرف بالإجمال أن أطوار الحياة الآخرة أعلى وأكمل من أطوار الحياة الدنيا كما تقدم ، ونحن نعلم أن الحكمة في لذة الأزواج بالمصاحبة الزوجية المخصوصة هي التناسل وإنماء النوع ، ولم يرد أن في الآخرة تناسلا ، فلا بد أن تكون لذة المصاحبة الزوجية هناك أعلى وحكمتها أسمى ، وأننا نؤمن بها ولا نبحث في حقيقتها كما تقدم في بحث رزق الجنة .

                          ( أقول ) : هذا ملخص ما قاله الأستاذ على طريقته المثلى في الإيمان بالغيب من غير قياس لعالمه على عالم الشهادة ، وهو لا ينافي كون الإنسان في الآخرة يكون إنسانا لا ملكا ، [ ص: 196 ] وإنما تكون لذاته الإنسانية أكمل مما كان في الدنيا وأسلم من المنغصات ومنها الطعام والشراب والمباشرة الزوجية فتنبه ، وثبت في الحديث الصحيح : ( ( إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ) ) قالوا : فما بال الطعام ؟ قال : ( ( جشاء ورشح كرشح المسك ، ويلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس ) ) رواه مسلم عن جابر بن عبد الله ، وفي معناه أحاديث أخرى ، وفي الصحيح أيضا ( ( إن لكل رجل في الجنة زوجين اثنتين ) ) - قال العلماء : إحداهن من نساء الدنيا والأخرى من نساء الجنة ، وما ورد من كثرتهن لا يصح منه شيء .

                          ثم قال : ( وهم فيها خالدون ) الخلود في اللغة : طول المكث ، ومن كلامهم خلد في السجن كما في الأساس ، وفي الشرع : الدوام الأبدي ، أي لا يخرجون منها ولا هي تفنى بهم فيزولوا بزوالها ، وإنما هي حياة أبدية لا نهاية لها ، وفقنا الله لما يجعلنا من خيار أهلها من العلوم الصحيحة والأعمال الصالحة التي ترتقي بها الأرواح وتستعد لذلك الفلاح .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية