الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 97 ] فصل

                                قال البخاري :

                                12 - باب

                                من الدين الفرار من الفتن

                                19 19 - حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن " .

                                التالي السابق


                                بوب البخاري على أن الفرار من الفتن من الدين ، وليس في الحديث إلا الإشعار بفضل من يفر بدينه من الفتن ، لكن لما جعل الغنم خير مال المسلم في هذه الحال دل على أن هذا الفعل من خصال الإسلام ، والإسلام هو الدين .

                                وأصرح من دلالة هذا الحديث الذي خرجه هنا الحديث الذي خرجه في أول " الجهاد " من رواية الزهري ، عن عطاء بن يزيد ، عن أبي سعيد قال : قيل : يا رسول الله ، أي الناس أفضل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله " . قالوا : ثم من ؟ قال : " مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ، ويدع الناس من شره " .

                                وليس في هذا الحديث ذكر الفتن .

                                [ ص: 98 ] وخرجه أبو داود ، وعنده : سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي المؤمنين أكمل إيمانا ؟ فذكره .

                                وهذا فيه دلالة على أن الاعتزال عن الشر من الإيمان .

                                وفي " المسند " و" جامع الترمذي " ، عن طاوس ، عن أم مالك البهزية قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الناس في الفتنة : رجل معتزل في ماله يعبد ربه ويؤدي حقه ، ورجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله " .

                                وروي عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                خرجه الحاكم .

                                وروي عن طاوس مرسلا .

                                وخرج الحاكم أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا : " أظلتكم فتن كقطع الليل المظلم ، أنجى الناس منها صاحب شاهقة يأكل من رسل غنمها ، ورجل من وراء الدروب آخذ بعنان فرسه يأكل من فيء سيفه " .

                                وقد وقفه بعضهم .

                                فهذه الروايات المقيدة بالفتن تقضي على الروايات المطلقة .

                                وحديث أبي سعيد الذي خرجه البخاري هنا لم يخرجه مسلم .

                                وقد روي عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد .

                                [ ص: 99 ] وهو وهم .

                                وروي عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن نهار العبدي ، عن أبي سعيد . وذكر " نهار " في إسناده وهم ، قاله الدارقطني .

                                فقوله صلى الله عليه وسلم : " يوشك " - تقريب منه للفتنة ، وقد وقع ذلك في زمن عثمان كما أخبر به صلى الله عليه وسلم . وهذا من جملة أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم .

                                وإنما كان الغنم خير مال المسلم حينئذ ; لأن المعتزل عن الناس بالغنم يأكل من لحومها ونتاجها ، ويشرب من ألبانها ، ويستمتع بأصوافها باللبس وغيره ، وهي ترعى الكلأ في الجبال وترد المياه . وهذه المنافع والمرافق لا توجد في غير الغنم ; ولهذا قال : " يتبع بها شعف الجبال " وهي رءوسها وأعاليها ; فإنها تعصم من لجأ إليها من عدو ، " ومواقع القطر " ; لأنه يجد فيها الكلأ والماء فيشرب منها ويسقي غنمه وترعى غنمه من الكلإ .

                                وفي " مسند البزار " عن مخول البهزي ، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " سيأتي على الناس زمان خير المال فيه غنم بين المسجدين ، تأكل من الشجر وترد الماء ، يأكل صاحبها من رسلها ويشرب من ألبانها ، ويلبس من أشعارها - [ ص: 100 ] أو قال : من أصوافها - والفتن ترتكس بين جراثيم العرب " .

                                وروي هذا المعنى عن عبادة بن الصامت من قوله .

                                وواحد الجراثيم جرثومة ، وهي أصل الشيء .

                                وفي هذا دلالة على أن من خرج من الأمصار فإنه يخرج معه بزاد ، وما يقتات منه .

                                وقوله : " يفر بدينه من الفتن " - يعني : يهرب خشية على دينه من الوقوع في الفتن ; فإن من خالط الفتن وأهل القتال على الملك لم يسلم دينه من الإثم ; إما بقتل معصوم ، أو أخذ مال معصوم ، أو المساعدة على ذلك بقول ونحوه . وكذلك لو غلب على الناس من يدعوهم إلى الدخول في كفر أو معصية حسن الفرار منه .

                                وقد مدح الله من فر بدينه خشية الفتنة عليه ، فقال حكاية عن أصحاب الكهف : وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف

                                وروى عروة عن كرز الخزاعي قال : سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعرابي : هل لهذا الإسلام من منتهى ؟ قال : " من يرد الله به خيرا من عرب أو عجم أدخله عليه " . قال : ثم ماذا ؟ قال : " تقع فتن كالظلل " . قال : كلا يا نبي الله ! قال : " بلى ، والذي نفسي بيده لتعودون فيها أساود صبا ، يضرب بعضكم رقاب بعض ، وخير الناس يومئذ رجل يتقي ربه ، ويدع الناس من شره " .

                                الأساود : جمع أسود ، وهو أخبث الحيات وأعظمها .

                                [ ص: 101 ] والصب : جمع صبوب ، على أن أصله صبب كرسول ورسل ، ثم خفف كرسل ; وذلك أن الأسود إذا أراد أن ينهش ارتفع ثم انصب على الملدوغ . ويروى " صبى " على وزن حبلى .

                                وفي " الصحيحين " عن حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر له الفتن ، فقال له : فما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك ؟ قال : " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " . قال : فإن لم يكن جماعة ولا إمام ؟ قال : " فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " .

                                وقد اعتزل جماعة من الصحابة في الفتن في البوادي .

                                وقال الإمام أحمد : إذا كانت الفتنة فلا بأس أن يعتزل الرجل حيث شاء ، فأما إذا لم تكن فتنة فالأمصار خير .

                                فأما سكنى البوادي على وجه العبادة وطلب السياحة والعزلة فمنهي عنه ، كما في الترمذي و" صحيح الحاكم " ، عن أبي هريرة قال : مر رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشعب فيه عيينة من ماء عذب ، فأعجبه طيبه وحسنه ، فقال : لو اعتزلت الناس وأقمت في هذا الشعب ، ولا أفعل حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فاستأمره ، فقال : " لا تفعل ; فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في أهله ستين عاما " .

                                وخرج الإمام أحمد نحوه من حديث أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ; ولكني بعثت بالحنيفية [ ص: 102 ] السمحة " . وذكر باقيه بمعناه .

                                وخرج داود من حديث أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله ، ائذن لي بالسياحة ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله " .

                                وفي " المسند " عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " عليك بالجهاد ; فإنه رهبانية الإسلام " .

                                وفي مراسيل طاوس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا رهبانية في الإسلام ولا سياحة " .

                                وفي المعنى مراسيل أخر متعددة .

                                قال الإمام أحمد : ليست السياحة من الإسلام في شيء ، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين .

                                والسياحة على هذا الوجه قد فعلها طوائف ممن ينسب إلى عبادة واجتهاد بغير علم ، ومنهم من رجع لما عرف ذلك .

                                وقد كان في زمن ابن مسعود جماعة من المتعبدين خرجوا إلى ظاهر الكوفة ، وبنوا مسجدا يتعبدون فيه ، منهم : عمرو بن عتبة ، ومفضل العجلي . فخرج إليهم ابن مسعود وردهم على الكوفة وهدم مسجدهم ، وقال : إما أن تكونوا أهدى من أصحاب محمد ، أو تكونوا متمسكين بذنب الضلالة .

                                وإسناد هذا صحيح عن الشعبي أنه حكى ذلك .

                                وقد رأى عبد الله بن غالب الحداني رجلا في فلاة ، يأتيه رزقه ، لا يدري [ ص: 103 ] من أين يأتيه ، فقال له : إن هذه الأمة لم تؤمر بهذا ; إنما أمرت بالجمعة والجماعة ، وعيادة المرضى ، وتشييع الجنائز . فقبل منه ، وانتقل من ساعته إلى قرية فيها هذا كله .

                                خرج حكايته ابن أبي الدنيا .

                                وروي نحو هذه الحكاية أيضا عن أبي غالب صاحب أبي أمامة الباهلي .

                                خرجها حميد بن زنجويه .

                                وكذلك سكنى البوادي لتنمية المواشي والأموال كما جرى لثعلبة في ماله فمذموم أيضا .

                                وفي " سنن ابن ماجه " ، عن أبي هريرة مرفوعا : " ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين ، فيتعذر عليه الكلأ فيرتفع ، ثم تجيء الجمعة فلا يشهدها ، وتجيء الجمعة فلا يشهدها حتى يطبع على قلبه " .

                                وخرجه الخلال من حديث جابر بمعناه أيضا .

                                وخرج حميد بن زنجويه من رواية ابن لهيعة : ثنا عمر مولى غفرة أنه سمع ثعلبة بن أبي مالك الأنصاري يقول : قال حارثة بن النعمان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يخرج الرجل في حاشية القرية في غنيمة يشهد الصلوات ، ويئوب إلى أهله حتى إذا أكل ما حوله وتعذرت عليه الأرض قال : لو ارتفعت إلى ردعة هي أعفى كلأ من هذه ! فيرتفع حتى لا يشهد من الصلوات إلا الجمعة حتى إذا [ ص: 104 ] أكل ما حوله وتعذرت عليه الأرض قال : لو ارتفعت إلى ردعة هي أعفى كلأ من هذه ، فيرتفع حتى لا يشهد جمعة ولا يدري متى الجمعة حتى يطبع الله على قلبه " .

                                وخرجه الإمام أحمد بمعناه .

                                وفي " سنن أبي داود " والترمذي وغيرهما ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " من سكن البادية جفا " .

                                وقال ابن مسعود في الذي يعود أعرابيا بعد هجرته : إنه ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .

                                وفي " الصحيحين " أن سلمة بن الأكوع قال : أذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البدو .

                                وفي رواية للبخاري أن سلمة لما قتل عثمان خرج إلى الربذة ، فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال ترك المدينة .

                                وفي " المسند " أن سلمة قدم المدينة ، فقيل له : ارتددت عن هجرتك يا سلمة ؟ فقال : معاذ الله ! إني في إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ; إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ابدوا يا أسلم ، فتنسموا الرياح واسكنوا الشعاب ! " فقالوا : يا رسول الله ، إنا نخاف أن يضرنا ذلك في هجرتنا ، قال : " أنتم مهاجرون حيث ما كنتم " .

                                [ ص: 105 ] وفي الطبراني ، عن ابن عمر أنه قيل له : يا أبا عبد الرحمن ، قد أعشبت القفار فلو ابتعت أعنزا فتنزهت تصح ! فقال : لم يؤذن لأحد منا في البداء غير أسلم " .

                                وأسلم هي قبيلة سلمة بن الأكوع .

                                وقد ترخص كثير من الصحابة من المهاجرين وغيرهم في سكنى البادية ، كسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد ; فإنهما لزما منزلهما بالعقيق ، فلم يكونا يأتيان المدينة في جمعة ولا غيرها حتى لحقا بالله عز وجل .

                                خرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " العزلة " .

                                وكان أبو هريرة ينزل بالشجرة وهي ذو الحليفة .

                                وفي " صحيح البخاري " ، عن عطاء قال : ذهبت مع عبيد بن عمير إلى عائشة وهي مجاورة بثبير ، فقالت لنا : انقطعت الهجرة منذ فتح الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - مكة .

                                وفي رواية له : قال : فسألناها عن الهجرة ، فقالت : لا هجرة اليوم ، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله ورسوله مخافة أن يفتن عليه ، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام ، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء ، ولكن جهاد ونية " .

                                وهذا يشعر بأنها إنما كانت تبدو ; لاعتقادها انقطاع الهجرة بالفتح .

                                وكان أنس بن مالك يسكن بقصره بالزاوية خارج البصرة ، وكان ربما شهد الجمعة ، وربما لم يشهدها .

                                [ ص: 106 ] وقد نص أحمد على كراهة المقام بقرية لا يقام فيها الجمعة وإن أقيمت فيها الجماعة.

                                وقد يحمل ذلك على من كان بمصر جامع يجمع فيه ، ثم تركه وأقام بمكان لا جمعة فيه .

                                وفي كلامه إيماء إليه أيضا .

                                وقد يحمل كلامه على كراهة التنزيه دون التحريم .

                                فأما المقام بقرية لا جمعة فيها ولا جماعة فمكروه .

                                وقد قال أبو الدرداء لمعدان بن أبي طلحة : أين ينزل ؟ فقال : بقرية دون حمص ، فقال له : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا يؤذن ولا يقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان " فعليك بالجماعة ; فإن الذئب يأكل القاصية .

                                خرجه النسائي وغيره .

                                وخرجه أحمد وأبو داود مختصرا .

                                وفي رواية لأحمد " فعليك بالمدائن ، ويحك يا معدان " .

                                وفي " المسند " أيضا عن معاذ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم ، يأخذ الشاة القاصية والناحية ; فإياكم والشعاب ، وعليكم بالجماعة والعامة والمساجد " .

                                [ ص: 107 ] فنهى عن سكنى الشعاب وهي البوادي ، وأمر بسكنى الأماكن التي فيها عامة الناس ومساجدهم وجماعتهم .

                                وقد روي عن قتادة أنه فسر الشعاب في هذا الحديث بشعاب الأهواء المضلة المخالفة لطريق الهدي المستقيم .

                                خرجه أبو موسى المديني عنه بإسناده .

                                وفي هذا بعد ، وإنما فسر بهذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه .

                                فإن الأوزاعي فسره بالبدعة يخرج إليها الرجل من الجماعة .

                                فأما الخروج إلى البادية أحيانا للتنزه ونحوه في أوقات الربيع وما أشبهه فقد ورد فيه رخصة ، ففي " سنن أبي داود " عن المقدام بن شريح ، عن أبيه ، أنه سأل عائشة : هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبدو ؟ فقالت : نعم إلى هذه التلاع ، ولقد بدا مرة فأتى بناقة محرمة ، فقال : " اركبيها يا عائشة وارفقي ; فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ، ولا نزع منه إلا شانه " .

                                [ ص: 108 ] وخرج مسلم آخر الحديث دون أوله .

                                وورد النهي عنه ، ففي " المسند " عن عقبة بن عامر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " هلاك أمتي في اللبن " ، قيل : يا رسول الله ، ما اللبن ؟ قال : تحبون اللبن وتدعون الجماعات والجمع ، وتبدون " .

                                وفي إسناده : ابن لهيعة .

                                وإن صح فيحمل على إطالة المقام بالبادية مدة أيام كثرة اللبن كلها ، وهي مدة طويلة يدعون فيها الجمع والجماعات .

                                وعن أبي عبد الله الجدلي قال : فضل أهل الأمصار على أهل القرى كفضل الرجال على النساء ، وفضل أهل القرى على أهل الكفور كفضل الأحياء على الأموات ، وسكان الكفور كسكان القبور ، وإن اللبن والعشب ليأكلان إيمان العبد كما تأكل النار الحطب .

                                خرجه حميد بن زنجويه ، وروى بإسناده عن مكحول معنى أوله .

                                ونص أحمد - في رواية مهنا - على كراهية الخروج إلى البادية لشرب اللبن ونحوه تنزها لما به من ترك الجماعة ، إلا أن يخرج لعلة . يعني أنه إذا خرج تداويا لعلة به جاز ، كما أذن النبي - صلى الله عليه وسلم للعرنيين لما [ ص: 109 ] اجتووا المدينة أن يخرجوا إلى البادية ; ليشربوا من ألبان الإبل وأبوالها .

                                قال أبو بكر الأثرم : النهي عن التبدي محمول على سكنى البادية والإقامة بها ، فأما التبدي ساعة أو يوما ونحوه فجائز . انتهى .

                                وقد كان السلف كثير منهم يخرج إلى البادية أيام الثمار واللبن .

                                قال الجريري : كان الناس يبدون هاهنا في الثمار ثمار البصرة ، وذكر منهم عبد الله بن شقيق وغيره .

                                وكان علقمة يتبدى إلى ظهر النجف .

                                وقال النخعي : كانت البداوة إلى أرض السواد أحب إليهم من البداوة إلى أرض البادية . يعني أن الخروج إلى القرى أهون من الخروج إلى البوادي .

                                وكان بعضهم يمتنع من ذلك لشهود الجماعة .

                                فروى أبو نعيم بإسناده ، عن أبي حرملة قال : اشتكى سعيد بن المسيب عينه ، فقيل له : يا أبا محمد ، لو خرجت إلى العقيق ، فنظرت إلى الخضرة ، ووجدت ريح البرية - لنفع ذلك بصرك ! فقال سعيد : وكيف أصنع بشهود العشاء والعتمة ؟

                                وما ذكره الأثرم من التفريق بين قصر المدة وطولها حسن ، لكنه حد القليل باليوم ونحوه ، وفيه نظر .

                                وفي " مراسيل أبي داود " من رواية معمر ، عن موسى بن شيبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من بدا أكثر من شهرين فهي أعرابية " .

                                [ ص: 110 ] وروى حميد بن زنجويه بإسناده ، عن خلف بن خليفة ، عن أبي هاشم قال : بلغني أن من نزل السواد أربعين ليلة كتب عليه الجفاء .

                                وعن معاوية بن قرة قال : البداوة شهران فما زاد فهو تعرب .



                                الخدمات العلمية