الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ الجزء الثالث ] [ أسباب الصحة في البيوع المطلقة ]

القسم الثاني : والأسباب والشروط المصححة للبيع هي بالجملة ضد الأسباب المفسدة له ، وهي منحصرة في ثلاثة أجناس : النظر الأول : في العقد . والثاني : في المعقود عليه . والثالث : في العاقدين . ففي هذا القسم ثلاثة أبواب . الباب الأول في العقد

والعقد لا يصح إلا بألفاظ البيع والشراء التي صيغتها ماضية ، مثل أن يقول البائع : قد بعت منك ، ويقول المشتري : قد اشتريت منك ، وإذا قال له : بعني سلعتك بكذا وكذا ، فقال : قد بعتها . فعند مالك أن البيع قد وقع وقد لزم المستفهم إلا أن يأتي في ذلك بعذر ، وعند الشافعي أنه لا يتم حتى يقول المشتري قد اشتريت ، وكذلك إذا قال المشتري للبائع : بكم تبيع سلعتك ؟ فيقول المشتري بكذا وكذا ، فقال : قد اشتريت منك . اختلف هل يلزم البيع أم لا حتى يقول : قد بعتها منك .

وعند الشافعي أنه يقع البيع بالألفاظ الصريحة وبالكناية ، ولا أذكر لمالك في ذلك قولا ، ولا يكفي عند الشافعي المعاطاة دون قول .

ولا خلاف فيما أحسب أن الإيجاب والقبول المؤثرين في اللزوم لا يتراخى أحدهما عن الثاني حتى يفترق المجلس ، ( أعني : أنه متى قال للبائع : قد بعت سلعتي بكذا وكذا فسكت المشتري ، ولم يقبل البيع حتى افترقا ، ثم أتى بعد ذلك ، فقال : قد قبلت أنه لا يلزم ذلك البائع ) .

واختلفوا متى يكون اللزوم ؟ فقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما ، وطائفة من أهل المدينة : إن البيع يلزم في المجلس بالقول ، وإن لم يفترقا; وقال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود ، وابن عمر من الصحابة [ ص: 533 ] رضي الله عنهم : البيع لازم بالافتراق من المجلس ، وأنهما مهما لم يفترقا ، فليس يلزم البيع ولا ينعقد ، وهو قول ابن أبي ذئب في طائفة من أهل المدينة ، وابن المبارك ، وسوار القاضي ، وشريح القاضي ، وجماعة من التابعين وغيرهم ، وهو مروي عن ابن عمر ، وأبي برزة الأسلمي من الصحابة ، ولا مخالف لهما من الصحابة .

وعمدة المشترطين لخيار المجلس : حديث مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلا بيع الخيار " ، وفي بعض روايات هذا الحديث : " إلا أن يقول أحدهما لصاحبه : اختر " ، وهذا حديث إسناده عند الجميع من أوثق الأسانيد ، وأصحها ، حتى لقد زعم أبو محمد أن مثل هذا الإسناد يوقع العلم ، وإن كان من طريق الآحاد . وأما المخالفون فقد اضطرب بهم وجه الدليل لمذهبهم في رد العمل بهذا الحديث . فالذي اعتمد عليه مالك - رحمه الله - في رد العمل به أنه لم يلف عمل أهل المدينة عليه مع أنه قد عارضه عنده ما رواه من منقطع حديث ابن مسعود أنه قال : " أيما بيعين تبايعا فالقول قول البائع أو يترادان " ، فكأنه حمل هذا على عمومه ، وذلك يقتضي أن يكون في المجلس ، وبعد المجلس ، ولو كان المجلس شرطا في انعقاد البيع لم يكن يحتاج فيه إلى تبيين حكم الاختلاف في المجلس لأن البيع بعد لم ينعقد ، ولا لزم بل بعد الافتراق من المجلس ، وهذا الحديث منقطع ، ولا يعارض به الأول ، وبخاصة أنه لا يعارضه إلا من توهم العموم فيه ، والأولى أن ينبني هذا على ذلك ، وهذا الحديث لم يخرجه أحد مسندا فيما أحسب ، فهذا هو الذي اعتمده مالك - رحمه الله - في ترك العمل بهذا الحديث .

وأما أصحاب مالك فاعتمدوا في ذلك على ظواهر سمعية ، وعلى القياس ، فمن أظهر الظاهر في ذلك قوله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) ، والعقد هو الإيجاب ، والقبول ، والأمر على الوجوب ، وخيار المجلس يوجب ترك الوفاء بالعقد ، لأن له عندهم أن يرجع في البيع بعد ما أنعم ما لم يفترقا . وأما القياس فإنهم قالوا : عقد معاوضة ، فلم يكن لخيار المجلس فيه أثر أصله سائر العقود ، مثل النكاح ، والكتابة ، والخلع ، والرهون ، والصلح على دم العمد ، فلما قيل لهم إن الظواهر التي تحتجون بها يخصصها الحديث المذكور ، فلم يبق لكم في مقابلة الحديث إلا القياس ، فيلزمكم على هذا أن تكونوا ممن يرى تغليب القياس على الأثر ، وذلك مذهب مهجور عند المالكية ، وإن كان قد روي عن مالك تغليب القياس على السماع ، مثل قول أبي حنيفة ، فأجابوا عن ذلك بأن هذا ليس من باب رد الحديث بالقياس ، ولا تغليب ، وإنما هو من باب تأويله وصرفه عن ظاهره . قالوا : وتأويل الظاهر بالقياس متفق عليه عند الأصوليين . قالوا : ولنا فيه تأويلان : أحدهما : أن المتبايعين في الحديث المذكور هما المتساومان اللذان لم ينفذ بينهما البيع ، فقيل لهم إنه يكون الحديث على هذا لا فائدة فيه لأنه معلوم من دين الأمة أنهما بالخيار إذ لم يقع بينهما عقد بالقول . وأما التأويل الآخر ، فقالوا : إن التفرق هاهنا إنما هو كناية عن الافتراق بالقول لا التفرق بالأبدان كما قال الله تعالى : ( وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ) ، والاعتراض على هذا أن هذا مجاز لا حقيقة ، [ ص: 534 ] والحقيقة هي التفرق بالأبدان ، ووجه الترجيح أن يقاس بين ظاهر هذا اللفظ ، والقياس فيغلب الأقوى ، والحكمة في ذلك هي لموضع الندم ، فهذه هي أصول الركن الأول الذي هو العقد .

التالي السابق


الخدمات العلمية